Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 15, Ayat: 87-99)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : السبع المثاني : هي الفاتحة عند الجمهور ، ومن المثاني : للبيان ، وعطفُ القرآن عليها من عطف العام على الخاص . و أنزلنا : نعت لمفعول النذير ، أي : أنا النذير عذاباً مثل العذاب الذي أنزل على المقتسمين . وقيل : صفة لمصدر محذوف يدل عليه : ولقد آتيناك فإنه بمعنى أنزلنا إليك إنزالاً مثل ما أنزلنا على المقتسمين ، وهم ، على هذا ، أهل الكتاب . وعِضِين : جمع عضة . وأصله : عِضْوة ، من عَضَوْتَ الشيء : فَرَّقْته ، حُذفت لامه ، وعوض منها هاء التأنيث ، فجمع على عضين ، كعزَةٍ وعزين . وقيل : أصله : عضة من عضهته : رميته بالبهتان ، قال في الصحاح : عَضَهَهُ عَضْهاَ : رماه بالبهتان . وقد أعْضَهْتَ ، أي : جئت بالبهتان . فهما قولان في أصل عِضة . هل هو واوي أو هائي . والموصول مع صلته نعت للمقتسمين . يقول الحق جل جلاله : لنبيه عليه الصلاة والسلام : { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني } ، وهي فاتحة الكتاب لأنها سبع آيات ، وتثنى أي تكرر في كل صلاة ، فالمثاني من التثنية ، وقيل : من الثناء لأن في الثناء على الله تعالى ، وقيل : السبع المثاني هي السبع الطوال ، وهي البقرة وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال مع براءة . ولذلك تركت البسلمة بينهما . وكونها مثاني لتثنية قصصها ، أو ألفاظها ، وقيل : هي الحواميم السبع . { و } آتيناك { القرآن العظيم } ، ففيه الغنية والكفاية عن كل شيء . { لا تمُدَّن عينيك } : لا تطمح ببصرك طموح راغب { إلى ما متعنا به أزواجاً منهم } أي : أصنافاً من الكفار ، من زهرة الحياة الدنيا ، فإنه مستحقر بالإضافة إلى ما أوتيته . وفي حديث أبي بكر : " من أوتي القرآن ، فرأى أن أحداً أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي ، فقد صغر عظيماً وعظم صغيراً " . قال ابن جزي : لا تنظر إلى ما متعنا به في الدنيا ، ومعنى الآية : تزهيد في الدنيا ، كأنه يقول : قد آتيناك السبع المثاني والقرآن العظيم فلا تنظر إلى الدنيا ، فإن الذي أعطيناك أعظم منها . هـ . وروي أنه صلى الله عليه وسلم وافى مع أصحابه أذْرِعَات ، فرأى سبع قوافل ليهود بني قُرَيْظَة والنَّضير ، فيها أنواع البُرِّ ، والطيب والجواهر ، وسائر الأمتعة ، فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقربنا بها ، ولأنفقناها في سبيل الله ، فقال لهم عليه الصلاة والسلامـ : " قد أعطيتم سبع آيات هي خير من هذه السبع القوافل " . { ولا تحزنْ عليهم } : لا تتأسف على كفرهم حيث أنذرتهم فلم ينزجروا ولم يؤمنوا . أو : حيث متعناهم بالدنيا فلم ينفعوا بها ، ولم يصرفوها في مرضاة الله ، { وأخفض جناحك للمؤمنين } أي : تواضع وألن جانبك للمؤمنين ، وارفق بهم . والجناح ، هنا ، استعارة . { وقل إني انا النذيرُ المبين } : البين الإنذار ، أنذرتكم ببيان وبرهان أن عذاب الله نازل بكم إن لم تؤمنوا . وفي الحديث : " أنا النذير ، وأنذرتكم ببيان وبرهان أن عذاب الله نازل بكم إن لم تؤمنوا " وفي الحديث : " أنا النذير ، والموت مغير ، والقيامة الموعد " أو كما قال عليه الصلاة والسلام ، وفي حديث آخر : " أنا النَّذير العُريَانُ " وكانت العرب إذا رأى أحْدهم جيشاً يقصدهم ، تجرد من ثيابه ، ثم أنذر قومه ليصدقوه ، أي : وقل : إني أنذرتكم ان ينزل بكم عذابه . { كما أنزلنا على المقتسمين } ، أي : مثل العذاب الذي أنزل على المقتسمين ، وهم أهل الكتاب ، الذين آمنوا ببعض الكتب وكفروا ببعض ، فاقتسموا قسمين . والعذاب الذي نزل بهم هو الذل والهوان وضرب الجزية ، أو تسليط عدوهم عليهم . وقيل : هم كفار قريش اقتسموا أبواب مكة في الموسم ، فوقف كل واحد منهم على باب ، وكانوا اثني عشر رجلاً ، لينفروا الناس عن الإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام ، يقول أحدهم : هو ساحر ، والآخر : هو شاعر ، فأهلكهم الله يوم بدر . وقيل : هم الرهط الذين اقتسموا ، أي : تقاسموا ليُبيتوا صالحاً ، فأسقط الله عليهم الغار الذي كمنوا فيه ، فشدخهم . أو : آتيناك القرآن ، وأنزلناه عليك كما أنزلنا التوراة على المقتسمين ، وهم اليهود ، { الذين جعلوا القرآن عِضين } ، أي : أجزاء متفرقة ، وقالوا فيه أقوالاً مختلفة ، فقالوا عناداً وكفراً : بعضه موافق للتوراة والأنجيل ، وبعضه باطل مخالف لهما . وإذا قلنا المقتسمين : هم كفارقريش ، حيث اقتسموا أبواب مكة ، فقد جعلوا القرآن عضين إجزاء متفرقة ، فقد قسموه إلى شعر وسحر وكهانة وأساطير الأولين ، أو جعلوه بهتاناً متعدداً ، على تفسير العضة بالبهت . وفي الحديث : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة " أي : الباهتة ، والمستبهتة : الطالبة له . قال تعالى في وعيد المقتسمين : { فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون } من التقسيم والتكذيب ، أو عن كل ما عملوه من الكفر والمعاصي ، وفي البخاري : " لنسألنهم عن لا إله إلا الله " . فإن قيل : كيف يجمع بين هذا وبين قوله { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [ الرحمن : 39 ] فالجواب : أن السؤال المثبت هو على وجه الحساب والتوبيخ ، والسؤال المنفي هو على وجه الاستفهام المحض لأن الله تعالى يعلم الأعمال ، فلا يحتاج إلى سؤال . وقيل : في القيامة مواطن وخوارق ، فموطن يقع فيه السؤال ، وموطن يذهب بهم إلى النار بغير سؤال . قال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام : { فاصدع بما تؤمر } : فاجهر ، وصرح به ، وأنْفِذْه ، من صدع بالحجة : إذا تكلم بها جهاراً . أو : فَرِّقْ بما تؤمر به ، بين الحق والباطل ، وأصله : الشق والإبانة ، و { ما } : مصدرية ، أو موصولة ، والعائد محذوف ، أي : بما تؤمر به من الشرائع . { وأعرضْ عن المشركين } فلا تلتفت إلى ما يقولون ، ولا يمنعك ذلك من تبليغ الوحي والصدع به وإظهاره . { إنا كفيناك المستهزئين } بك ، وبما أنزلنا إليك ، بأن أهلكنا كل واحد منهم بمصيبة تخصه ، من غير سعي من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك . وكانوا خمسة من أشراف قريش : الوليد بن المغيرة ، والعاصي بن وائل ، وعدي بن قيس ، والأسود بن المطلب ، والأسود بن يغوث ، كانوا يبالغون في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم ، والاستهزاء به ، فقال جبريلُ للنبي صلى الله عليه وسلم : " أمرتُ بأن أكفيكهم " فأومأ إلى ساق الوليد فمرَّ بنبَّالٍ فتعلق بثوبه سهم ، فلم ينعطف لأخذه ، تعظماً ، فأصاب عرقاً في عقبه فمات . وقيل : خدش بأسفل رجله فمات من تلك الخدشة . وأومأ إلى أخمص العاص فدخلت فيها شوكة ، فانتفخت حتى صارت كالرحى ، فمات . وأشار إلى أنف الحارث فامتخط قيحاً فمات . وأومأ إلى الأسود بن عبد يغوث ، وهو قاعد في أصل شجرة ، فجعل ينطح رأسه بالشجرة ، ويضرب وجهه بالشوك حتى مات . وقيل : استسقى بطنه فمات ، ولعله جمع بينهما . وأومأ إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي . وفي السيرة ، بدل عدي بن قيس ، الحارث بن الطلاطلة ، وأن جبريل أشار إلى رأسه فامتخط قيحاً فقتله . وقيل : هم الذين قُتلوا ببدر كأبي جهل ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأمية بن خلف ، وعقبة بن أبي معيط . والأول أرجح لأن الله تعالى كفاه أمرهم بمكة قبل الهجرة . إلا أن يكون عبّر بالماضي عن المستقبل لتحققه ، أي : إنا سنكفيك المستهزئين { الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر } يعبدونه من دون الله { فسوف يعلمون } عاقبة أمرهم في الدارين . ثم سلّى نبيه عن أذاهم فقال : { ولقد نعلمُ أنك يضيق صدرُك بما يقولون } في جانبنا من الشرك والطعن في القرآن ، والاستهزاء بك ، فلا تعبأ بهم ، ولا تلتفت إليهم . { فسِّبح بحمد ربك } أي : فنزه أنت ذاتنا وصفتنا ، مكان مقالتهم فينا فإن مثلك منزهنا لا غير ، { وكن من الساجدين } أي : المصلين ، أو : فافرغ إلى الله فيما نابك وضاق منه صدرك بالتسبيح والتحميد . { وكن من الساجدين } من المصلين ، يكفك ويكشف الغم عنك ، وعنه صلى الله عليه وسلم : " أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة " ، أو : فنزهه عما يقولون ، حامداً له على أن هداك للحق ، وكن من الساجدين له شكراً . { واعبدْ ربك حتى يأتيك اليقين } أي : الموت ، فإنه متيقن لحاقه ، وليس اليقين من أسماء الموت ، وإنما العلم به يقين ، لا يمتري فيه ، فسمي يقيناً تجوزاً . أو : لما كان يحصل اليقين بعده بما كان غيباً سمي يقيناً . والمعنى : فاعبده ما دمت حياً ، ولا تُخِلّ بالعبادة لحظة . وفي بعض الأحاديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : " إن الله لم يُوح إليَّ أن أجمع المال ، وأكون من التاجرين ، وإنما أوحى إليَّ أن : سبح بحمد ربك وكن من الساجدين ، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين " أو كما قال عليه الصلاة والسلام . الإشارة : يقال للعابد ، أو الزاهد : ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم ، تتمتع بحلاوته ، وبالتجهد بتلاوته ، ففيه كفايتك وغناك ، فلا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أصنافاً من أهل الدنيا ، الراغبين فيها ، المشتغلين بها عن عبادة خالقها . قيل : لما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم : " إياكم والنظر في أبناء الدنيا ، فإنه يقسي القلب ويورث حب الدنيا ، ولا تكثروا الجلوس مع أهل الثروة ، فتميلوا لزينة الدنيا فوالله لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقي الكافر منها جرعة ماء " وقال صلى الله عليه وسلم : " من تواضع لغني لأجل غناه اقترب من النار مسيرة سنة ، وذهب ثلثا دينه " هذا إن تواضع بجسمه فقط ، فإن تواضع بجسمه وقلبه ذهب دينه كله . ويقال للعارف : ولقد آتيناك شهود المعاني ، وغيبناك عن حس الأواني ، حتى شهدت المتكلم بالسبع المثاني ، فسمعت القرآن من مُنزله دون واسطة . وذلك بالفناء ، عن الوسائط ، في شهود الموسوط ، حتى يفنى عن نفسه في حال قراءته . ويقال له : لا تمدن عينيك إلى شهود الحس ، ولا إلى ما متعنا به أصنافاً من أهل الحس ، الواققين مع شهود الحس فإن ذلك يحجبك عن شهود المعاني القائمة بالأواني ، بل المفنية للأواني عند سطوع المعاني . ولا تحزن عليهم حيث رايتهم منهمكين في الحس فإن قيام عالم الحكمة لا يكون إلا بوجود أهل الحس ، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين بخصوصيتك ، وقل : إني أنا النذير المبين من الاشتغال بالبطالة ، والغفلة ، حتى ينزل بأهلهما ما نزل على المقتسمين ، الذين جعلوا القرآن عضين اجزاء متفرقة فما كان فيه مما يدل على التسهيل لجواز جمع الدنيا واحتكارها والاشتغال بها أخذوا به ، وما كان فيه مما يدل على الزهد فيها ، والانقطاع إلى الله عنها ، والتجريد عن أسبابها ، رفضوه . فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون . فاصدع ، أيها العارف الواعظ يما تُؤمر من الأمر بالزهد ، والانقطاع إلى الله ، ولرفض كل ما يشغل عن الله ، ولا تراقب أحداً في ذات الله ، وأعرض عن المشركين ، الذين أشركوا في محبة الله سواه ، وشهدوا الأكوان موجودة مع الله ، وهي ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته ، فلا وجود لها في الحقيقة مع الله . فإن استهزؤوا بك ، وصغروا أمرك ، فسيكفيكهم الله . فاشتغل بالله عنهم ، فلا يضيق صدرك بما فيه يخوضون . فسبح بحمد ربك أي : نزهه عن شهود السِّوى معه ، حامداً الله على ما أولاك من نعمة توحيده . وكن من الساجدين لله شكراً ، وقياماً برسم العبودية ، أو : كن من الساجدين بقلبك في حضرة القدس ، حتى يأتيك اليقين . وفي الورتجبي ، في قوله : ولقد نعلم أنك يضيقُ صدرك ، قال : واسى الحقُّ حبيبَه بما سمع من أعدائه ، وقال له : أنت بمرأىً منا ، يضيق صدرك من لطافتك ، بما يقول الجاهلون بنا في حقنا ، مما لا يليق بتنزيهنا ، فنزه أنت صفتنا مكان مقالتهم فينا ، فإنَّ مثلك منزهنا لا غير ، وكن من الساجدين حتى ترانا بوصف ما علمت منا ، وتخرج من ضيق الصدر بما تشاهد من جمالنا ، فإذا كنت تعايننا سقط عنك ضيق صدرك من جهة مقالتهم . هـ . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق