Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 104-109)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { من كفر } : شرطية مبتدأ ، وكذلك { من شرح } . و { فعليهم غضب } : جواب عن الأولى والثانية لأنهما بمعنى واحد ، ويكون جوابًا للثانية ، وجواب الأولى : محذوف يدل عليه جواب الثانية . وقيل : { من كفر } : بدل من { الذين لا يؤمنون } ، أو من المبتدأ في قوله : { أولئك هم الكاذبون } ، أو من الخبر . و { إلا من أكره } : استئناف من قوله : { من كفر } . يقول الحقّ جلّ جلاله : { إِنَّ الذين لا يؤمنون } لا يُصدِّقون { بآيات الله } ، ويقولون : هي من عند غيره ، { لا يهديهم الله } إلى سبيل النجاة ، أو إلى اتباع الحق ، أو إلى الجنة . { ولهم عذاب أليم } في الآخرة . وهذا في قوم عَلِمَ أَنهم لا يؤمنون ، كقوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 96 ] . وقال ابن عطية : في الآية تقديم وتأخير ، والمعنى : إن الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بالله . ولكنه قدَّم وأخر تهممًا بتقبيح أفعالهم . هـ . قال البيضاوي : هددهم على كفرهم ، بعد ما أماط شبهتهم ، ورد طعنهم فيه ، ثم قلب الأمر عليهم ، فقال : { إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله } لأنهم لا يخافون عذابًا يردعهم عنه ، { وأولئك هم الكاذبون } على الحقيقة ، أو الكاملون في الكذب لأن تكذيب آيات الله ، والطعن فيها ، بهذه الخرافات أعظم الكذب . وأولئك الذين عادتهم الكذب لا يصرفهم عنه دين ولا مروءة . أو الكاذبون في قولهم : { إنما أنت مفتر } ، { إِنما يعلمه بشر } . هـ . والكلام كله مع كفار قريش . ثم ذكر حكم مَن ارتد عن الإيمان طوعًا أو كرهًا ، فقال : { من كفر بالله من بعد إِيمانه } فعليهم غضب من الله ، { إِلا مَن أُكْرِه } على التلفظ بالكفر ، أو على الافتراء على الله ، { وقلبُه مطمئن بالإِيمان } لم تتغير عقيدته ، { ولكن من شرح بالكفر صدرًا } أي : فتحه ووسعه ، فاعتقده ، وطابت به نفسه ، { فعليهم غضبٌ من الله ولهم عذاب عظيم } إذ لا أعظم من جرمه . رُوِيَ أن قريشًا أكرهوا عمّارًا وأبويه - وهما ياسر وسمية - على الارتداد ، فربطوا سمية بين بعيرين ، وطعنوها بحربة في قلبها ، وقالوا : إنك أسلمت من أجل الرجال ، فماتت - رحمة الله عليها - وقتلوا ياسرًا زوجها ، وهما أول قتيلين في الإسلام . وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مُكرهًا ، فقيل : يا رسول الله إن عمارًا كفر ، فقال : " كَلا ، إن عَمَّارًا مُلئ إيمَانًا من قَرْنِهِ إلى قَدَمِهِ ، واخْتَلَطَ الإِيمَانُ بلَحْمِهِ ودَمِهِ " فَأَتَى عمَّار رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَبْكي ، فَجَعَلَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَيْنَيْه ، ويقول : " مَا لك ، إِنْ عَادُوا لَك فَعُدْ لَهُمْ بِما قُلْتَ " . وهو دليل على جواز التكلم بالكفر عند الإكراه . وإن كان الأفضل أن يجتنب عنه ، إعزازًا للدين ، كما فعل أبواه . لما رُوي أنَّ مسيلمة أخذ رجلين ، فقال لأحدهما : ما تقول في محمد ؟ فقال : رسول الله . وقال : ما تقول فيَّ ؟ فقال : أنت أيضًا ، فخلى سبيله ، وقال للآخر : ما تقول في محمد ؟ فقال : رسول الله ، فقال : ما تقول فيَّ ؟ فقال : أنا أصم ، فأعاد عليه ثلاثًا ، فأعاد جوابه ، فقتله ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : " أما الأول فقد أخذ برخصة الله ، وأما الآخر فقد صدع بالحق ، فهنيئًا له " هـ . قاله البيضاوي . قال ابن جزي : وهذا الحكم فيمن أكره على النُطق بالكفر ، وأما الإكراه على فعل وهو كفر ، كالسجود للصنم ، فاختلف هل يجوز الإجابة إليه أو لا ؟ فأجازه الجمهور ، ومنعه قوم . وكذلك قال مالك : لا يلزم المكره يمين ، ولا طلاق ، ولا عتاق ، ولا شيء فيما بينه وبين الله ، ويلزمه ما كان من حقوق الناس ، ولا تجوز له الإجابة إليه كالإكراه على قتل أحدٍ أو أخذ ماله . هـ . وذكر ابن عطية أنواعًا من الأمور المكره بها ، فذكر عن مالك : أن القيد إكراه ، والسجن إكراه ، والوعيد المخوف إكراه ، وإن لم يقع ، إذا تحقق ظلم ذلك المتعدي ، وإنفاذه فيما يتوعد به . ثم ذكر خلافًا في الحنث في حق من حلف للدرء عن ماله ، لظالم ، بخلاف الدرء عن النفس والبدن ، فإنه لا يحنث ، قولاً واحدًا ، إلا إذا تبرع باليمين ، ففي لزومه خلاف . وانظر المختصر في الطلاق . ثم علل نزول العذاب بهم ، فقال : { ذلك } الوعيد { بأنهم استحبُّوا الحياةَ الدنيا على الآخرة } أي : بسبب أنهم آثروها عليها ، { وأنَّ الله لا يهدي القوم الكافرين } ، الذين سبق لهم الشقاء ، فلا يهديهم إلى ما يوجب ثبات الإيمان في قلوبهم ، ولا يعصمهم من الزيغ . { أولئك الذين طَبَعَ اللهُ على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم } فغابت عن إدراك الحق والتدبر فيه ، { وأولئك هم الغافلون } الكاملون في الغفلة ، حتى أغفلتهم الحالة الزائفة عن التأمل في العواقب . { لا جَرَمَ } : لا شك { أنهم في الآخرة هم الخاسرون } حيث ضيعوا أعمارهم ، وصرفوها فيما أفضى بهم إلى العذاب المخلد . قاله البيضاوي . الإشارة : من سبق له البِعاد لا ينفعه الكد والاجتهاد ، ومن سبقت له العناية لا تضره الجناية . ففي التحقيق : ما ثَمَّ إلا سابقة التوفيق . فمن كان في عداد المريدين السالكين ، ثم أكره على الرجوع إلى طريق الغافلين ، { فمن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } ، أي : بالتصديق بطريق الخصوص ، وهو مصمم على الرجوع إليها فلا بأس عليه أن ينطق بلسانه ، ما يُرى أنه رجع إليهم . فإذا وجد فسحة فرَّ بدينه . وكذلك إذا أخذه ضعف أو فشل وقت القهرية ، ثم أنهضته العناية ، ففرّ إلى الله ، التحق بأولياء الله ، وأما من شرح صدره بالرجوع عن طريق القوم ، وطال مقامه مع العوام ، فلا يفلح أبدًا في طريق الخصوص ، والتحق بأقبح العوام ، إلا إن بقي في قلبه شيء من محبة الشيوخ والفقراء ، فلعله يحشر معهم ، ودرجته مع العوام . قال القشيري : إذا عَلِمَ اللهُ صِدْقَ عبده بقلبه ، وإِخلاصَه في عَقْدِه ، ثم لحقته ضرورة في حاله ، خَفَّفَ عنه حُكْمَه ، ورفع عنه عناءهَ ، فإذا تلفظ بكلمة الكفر مُكْرَهًا ، وهو بالتوحيد محقق ، عُذر فيما بينه وبين ربه . وكذلك الذين عقدوا بقلوبهم ، وتجردوا لسلوك طريق الله ، ثم اعْتَرَضَت لهم أسبابٌ ، فاتفقت لهم أعذارٌ ، فنفذ ما يوجبه الحال ، وكان لهم ببعض الأسباب اشتغالٌ ، أو إلى شيء من العلوم رجوعٌ ، لم يقدح ذلك في حجة إرادتهم ، ولا يُعَدُّ ذلك منهم شكًا وفَسْخًا لعهودهم ، ولا تنتفي عنهم سِمَةُ الفيئة إلى الله . هـ . قلت : هذا إن بقوا في صحبة الشيوخ ، ملازمين لهم ، أو واصلين إليهم ، وأما إن تركوا الصحبة ، أو الوصول ، فلا شك في رجوعهم إلى العمومية . ثم قال في قوله : { ولكن مَن شرح بالكفر صدرًا } : من رجع باختياره ، ووضع قدَمًا في غير طريق الله ، بحُكْمِ هواه ، فقد نَقَضَ عَهْدَ إرادته لله ، وفَسَخَ عقد قصده إلى الله ، وهو مُسْتَوْجِبٌ الحَجْبَةَ ، إلى أن تتداركه الرحمة . هـ . قال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن الفاسي ، ما نصه : وفي مكاتبة لشيخنا العارف أبي المحاسن يوسف بن محمد : فإن اختلفت الأشكال ، وتراكمت الفتن والأهوال ، وتصدعت الأحوال ، ربما ظهر على العارف وصف لم يكن معهودًا ، وأمر لم يكن بالذات مقصودًا ، فيكون معه قصور في جانب الحق ، لا في جانب الحقيقة ، فلا يضر ، إن رجع في ذلك لمولاه فرارًا ، وإلى ربه اضطرارًا . { ففروا إلى الله } . هـ . ثم رغب في التوبة فقال : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ … }