Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 10-16)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { لكم منه شراب } : يحتمل أن يتعلق بأنزل ، أو يكون في موضع خبر { شراب } ، أو صفة لماء و { مواخر } : جمع ماخرة ، يقال : مخرت السفينة الماء مخرًا : شقّته ، وقيل : المخر : صوت جَرْىِ الفلك في البحر من هبوب الريح . وقيل : معناه : تجيء وتذهب بريح واحدة . و { لتبتغوا } : عطف على " لتأكلوا " ، و { أن تميد } : مفعول من أجله ، أي : كراهة أن تميد بكم . و { أنهارًا وسُبلاً } : مفعول بمحذوف ، أي : وخلق أو وجعل أنهارًا ، وقيل : معطوف على " رواسي " لأن ألقى ، فيه معنى الجعل ، و { علامات } : عطف على { أنهارًا وسبلاً } ، أو نصب على المصدر ، أي : ألقى ذلك لعلكم تعتبرون ، وعلامات دالة على وحدانيته . يقول الحقّ جلّ جلاله : { هو الذي أنزل من السماء } أي : السحاب ، أو جانب السماء ، { ماء } : مطراً { لكم منه شراب } تشربونه بلا واسطة ، أو بواسطة العيون والأنهار والآبار لأنه يُحبس فيها ، ثم يشرب منها ، لقوله : { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الأَرْضِ } [ الزُّمَر : 21 ] ، وقوله : { فَأَسْكَنَّاهُ فِى الأَرْضِ } [ المؤمنون : 18 ] ، { ومنه شجرٌ } أي : ومنه يكون شجر ، يعني : الشجر الذي ترعاه المواشي ، وقيل : كل ما نبت على الأرض فهو شجر ، { فيه تُسِيمُون } : ترعون مواشيكم ، من أسام الماشية : رعاها ، وأصلها : السومة ، التي هي العلامة لأنها تؤثر بالرعي علامات . { يُنبتُ لكم به الرزعَ } وقرأ أبو بكر بالنون على التفخيم ، { والزيتونَ والنخيلَ والأعناب ومن كل الثمرات } أي : ومن بعض كل الثمرات إِذْ لم ينبت في الأرض كل ما يمكن من الثمار . قال البيضاوي : ولعل تقديم ما يسام فيه على ما يؤكل منه لأنه سيصير غذاءً حيوانيًّا هو أشرف الأغذية - يعني اللحم - ، ومن هذا : تقديم الزرع ، والتصريح بالأجناس الثلاثة وترتيبها . هـ . { إن في ذلك لآية لقوم يتفكّرون } ، فيستدلون على وجود الصانع وباهر قدرته ، فإن من تأمل الحبة تقع في الأرض يابسة ، ويصل إليها نداوة تنفذ فيها ، فينشق أعلاها ، ويخرج منه ساق الشجر ، وينشق أسفلها فيخرج منه عروقها ، ثم ينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار ، والأكمام والثمار ، ويشتمل كل منها على أجسام مختلفة الأشكال والطبائع ، مع اتحاد المواد ، عَلِمَ أن ذلك ليس إلا بفعل فاعل مختار ، مقدس عن منازعة الأضداد والأنداد ، ولعل وصل الآية به لذلك . قاله البيضاوي باختصار . { وسخَّر لكم الليلَ والنهارَ والشمس والقمرَ والنجومَ } بأن هيأها لمنافعكم ، { مسخراتٍ بأمره } ، أي : مذللات لما يريد منها ، وهو حال من الجميع ، أي : نفعكم بها حال كونها مسخرات لله ، منقادة لحكمه ، أو لما خلقن له ، { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } أي : لأهل العقول السليمة الصافية من ظلمة الغفلة والشهوات ، وإنما جمع هنا ، دون ما قبله وما بعده لأن الأولى راجعة إلى إنزال المطر ، وهو متحد ، والثالثة راجعة إلى ما ذرأ في الأرض ، وهو متحد في الجنس والهيئة ، بخلاف العوالم العلوية ، فإنها مختلفة في الجنس والهيئة . وقال البيضاوي : جمع الآية وذكر العقل لأنها تتضمن أنواعًا من الدلالة ظاهرة لذوي العقول السليمة ، غير مُحْوِجَةٍ إلى استيفاء فكر ، كأحوال النبات . هـ . { وما ذرأ } أي : وسخر لكم ما ذرأ ، فهو عطف على الليل ، أي : سخر لكم ما خلق لكم في الأرض من حيوانات ونبات ، { مختلفاً ألوانه } أبيض وأسود ، أحمر وأصفر ، مع اتحاد المادة ، فالماء واحد والزهر ألوان ، { إن في ذلك لآية لقوم يذّكرون } يتذكرون أن اختلافها في الألوان والطبائع ، والهيئات والمناظر ، ليس إلا بصنع صانع حكيم . { وهو الذي سخَّر البحرَ } : ذللـه بحيث هيأه للتمكن من الانتفاع به بالركوب فيه ، والاصطياد ، والغوص ، { لتأكلوا منه لحمًا طريًّا } هو السمك ، ووصفة بالطراوة لأنه أرطب اللحوم ، فيسرع إليه الفساد ، فيسارع إلى أكله طريًّا ، ولإظهار قدرته في خلقه عذبًا طريًّا في ماء زُعاق أُجاج ، واحْتَج به مالك على أن من حلف ألا يأكل لحمًا حنث بأكل السمك ، وأجيب بأن مبني الأيمان على العُرف ، وهو لا يُفهم منه عند الإطلاق ألا ترى أن الله سمى الكافر دابة ، ولا يحنث من حلف ألا يركب دابة بركوبه . قاله البيضاوي . ويجاب بالاحتياط فالحنث يقع بأدنى شيء ، بخلاف البِر ، لا يقع إلا بأتم الأشياء . { وتستخرجوا منه حِلْيةً } كاللؤلؤ والمرجان ، { تلْبسونها } يلبسها نساؤكم ، وأسند اللباس إليهم لأن لباس النساء تزين للرجال ، فكأنه مقصودٌ لهم ، { وترى الفلك } : السفن { مواخر فيه } جواري فيه تمخر الماء ، أي : تشقه ، أو تُصوت من هبوب الريح ، { ولتبتغوا من فضله } : من سعة رزقه بركوبه للتجارة ، أو : وترى الفلك جواري فيه لتركبوها ، ولتبتغوا من سعة رزقه . قال ابن عطية : فيه إباحة ركوب البحر للتجارة وطلب الأرباح . هـ . { ولعلكم تشكرون } أي : تعرفون نعم الله فتقوموا بشكرها . ولعل تخصيصه بتعقيب الشكر لأنه أقوى في باب الإنعام من حيث جعل المهالك سببًا للانتفاع ، وتحصيل المعاش . قاله البيضاوي . { وألقى في الأرض رواسي } جبالاً رواسي أرست الأرض كراهة { أن تميد بكم } تميل وتضطرب لأن الأرض قبل أن تُخلق فيها الجبال كانت كرة خفيفة بسيطة ، وكان من حقها أن تتحرك كالسفينة على البحر ، فلما خُلقت الجبال تقاومت جوانبها بثقلها نحو المركز ، فصارت كالأوتاد التي تمنعها عن الحركة . وقيل : لما خلق الله الأرض جعلت تمور - أي : تتحرك - فقالت الملائكة : ما يستقر أحد على ظهرها ، فأصبحت وقد أرْسيَتْ بالجبال . { وأنهارًا } أي : وجعل فيها أنهارًا تطرد لسقي الناس والبهائم ، وسائر المنافع ، وذكره بعد الجبال لأن الغالب انفجارها منها ، { وسُبلاً } أي : وجعل فيها طُرقًا { لعلكم تهتدون } لمقاصدكم ، أو لمعرفة ربكم ، بالنظر في دلالة هذه المصنوعات المتقدمة ، على صانعها . { و } جعل فيها { علاماتٍ } : معالم يَسْتَدِلُّ بها السابلة على معرفة الطرق من الجبال ، والمناهل ، والرياح ، وغير ذلك ، { وبالنجم هم يهتدون } إلى الطرق بالليل ، في البراري والبحار ، والمراد بالنجم : الجنس ، بدليل قراءة : " وبالنُّجُمِ " بضمتين على الجمع . وقيل : المراد : الثريا ، والفرقدان وبنات نعش ، والجَدْي . والضمير لقريش لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة ، مشهورين بالاهتداء في مسايرهم بالنجوم ، وإخراج الكلام عن سنن الخطاب ، وتقديم النجم ، وإقحام الضمير للتخصيص ، كأنه قيل : وبالنجم خصوصًا ، هؤلاء خصوصًا يهتدون ، يعني : قريشًا ، فالاعتبار بذلك ، والشكر عليهم ألزم لهم وأوجب عليهم . هـ . وأصله للزمخشري . الإشارة : هو الذي أنزل من سماء الغيوب ماء ، أي : علمًا لدنيًا تحيا به القلوب ، وتتطهر به النفوس من أدناس العيوب . لكم منه شراب ، خمرة تحيا بها الأرواح ، وتغيب عن حضرة الأشباح ، ويخرج منه على الجوارح أشجار العمل ، تثمر بالأذواق ، فيه تسيمون ، أي : في أذواق العمل ترعون بنفوسكم وقلوبكم ، ثم ترحلون عنه إلى حلاوة شهود ربكم ، فمن وقف مع حلاوة العمل ، أو المقامات أو الكرامات ، بقي محجوبًا عن ربه ، وعليه نبّه صاحب البردة بقوله : @ وَراعِها ، وهْيَ في الأعْمَالِ سَائِمَةٌ وإنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ المَرْعَى فلا تُسِم @@ وقال في الحكم : " ربما وقفت القلوب مع الأنوار ، كما حُجِبَت النفوس بكثائف الأغيار " . وقال الششتري : @ وقد تحْجُبُ الأنوار للعبْدِ مثْل ما تبعد من إظلام نفْس حوَتْ ضِغنا @@ يُنبت بذلك العلم طعام نَفوسكم من قوت الشريعة ، ومصباح قلوبكم من عمل الطريقة ، وثمرة الأعمال في عوالم الحقيقة ، وفواكه العلوم من مخازن الفهوم . وسخر لكم ليل القبض ، ونهار البسط لتسكنوا فيه لِمَا خصكم فيه من مقام التسليم والرضا ، ولتبتغوا من فضله من فيض العلوم وكشف الغطاء ، فتشرق حينئذ شمس العرفان ، ويستنير قمر الإيمان ، وتطلع نجوم العلم ، كل مسخر في محله ، لا يستتر أحد بنور غيره ، وهذا مقام أهل التمكين ، يستعملون كل شيء في محله . وما ذرأ لكم في أرض نفوسكم من أنواع العبادات وأحوال العبودية ، متلونة باعتبار الأزمنة والأمكنة ، وهو الذي سخر بحر المعاني لتأكلوا منه لحمًا طريًا علمًا جديدًا لم يخطر على قلب بشر ، وتستخرجوا منه جواهر ويواقيت من الحِكَم ، تلبسونها وتتزين قلوبكم وألسنتكم بها . وترى الفلك ، أي : سفن الفكرة ، فيه مواخر عائمة في بحر الوحدة ، بين أنوار الملكوت وأسرار الجَبروت لتبتغوا من فضله ، وهي معرفة الحق بذاته وأسمائه وصفاته ، ولعلكم تشكرون ، فتقيدوا هذه النعم الجسام لئلا تزول . وألقى في أرض البشرية جبال العقول لئلا يلعب بها ريحُ الهوى ، وأجرى عليها أنهارًا من العلوم حين انزجرت عن هواها ، وجعل لها طُرقًا تهتدي بها إلى معرفة ربّها ، فَتهتدي أولاً إلى نجم الإسلام ، ثم إلى قمر توحيد البرهان ، ثم إلى شهود شمس العرفان . وبالله التوفيق . ولما ذكر دلائل التوحيد أنكره من اشرك بعد هذا البيان . ثم ذكر بقية التجليات ، فقال : { هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ … }