Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 3-9)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { والأنعام } : منصوب بمحذوف ، يفسره : { خَلَقَها } ، أو معطوف على " الإنسان " و { خلقها لكم } : بيان لما خُلقتُ لأجله ، وما بعده تفصيل له . و { منها تأكلون } : إنما قدَّم المعمول للمحافظة على رؤوس الآي ، أو : لأن الأكل منها هو المعتمد عليه في المعاش ، وأما الأكل من غيرها من سائر الحيوانات المأكولات فعلى سبيل التداوي والتفكه . قاله البيضاوي . قلت : ولعله ، عند مالك ، للاختصاص ، أي : منها تأكلون لا من غيرها إذ لا يؤكل عنده غيرها من البهائم الإنسية . وقوله : { لكم } : يحتمل أن يتعلق بما قبلها أو بما بعدها ، ويختلف الوقف باختلاف ذلك . { إلا بشق } : فيه لغتان : الكسر والفتح ، بمعنى التعب والكلفة ، وقيل : المفتوح مصدر شَقَّ الأمرُ عليه ، أي : صَعُبَ ، والمكسور بمعنى : النصف ، كأنه ذهب نصف قُوَّتِهِ بالتعب . { والخيل } : عطف على " الأنعام " . و { زينة } : مفعول من أجله ، عطف على موضع " لتركبوها " : أي : للركوب والزينة ، أو مفعول مطلق ، أي : لتتزينوا بها زينة . يقول الحقّ جلّ جلاله : { خلق السماوات والأرض } : أوجدهما { بالحق } أي : ملتبسًا بالحق لتدل على وحدانية الحق ، وكمال قدرته وباهر حكمته ، حيث أوجدهما على مقدار مخصوص ، وشكل بديع ، وأوضاع مختلفة ، وهيئات متعددة . أو : خلقهما بقضائه وتدبيره الحق ، لا بمشاركةِ وتدبيرِ أحد معه ، ولا بمعاونة شريك ولا ظهير ، ولذلك نزه نفسه بقوله : { تعالى عمّا يشركون } ، كما نزه نفسه ، ابتداءً ، لَمَّا نفَى الاستعجال لأنه من تدبير الخلق أيضًا والصدور عن رأيهم ، وفي معناه : تنزيل الوحي على ما يشاء لا على ما يشاء غيره لانفراده أيضًا في ملكه . وفي إبرازه ذلك ، على ما يخالف آراء الخلق ، أدل دليل على وحدانيته في ملكه ، وإنما وضع كل شيء ودبره دلالة على وحدانيته وهدايته لخلقه إليه . ثم شفع بخلق الإنسان فقال : { خلق الإنسان } أي : جنسه { من نُطفة } : من ماء مهين يخرج من مكان مهين ، { فإذا هو خصيم مبين } : مجادل ، كثير الجدل والخصام ، مبين لحجته ، أو : خصيم : مكافح لخالقه ، قائل : { مَن يحيي العظام وهي رميم } . " رُوي أن أُبيّ بن خَلَف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بِعَظْمٍ رَمِيم ، فقال : يا محمد ، أترَى الله يُحيِي هذا بعد ما قد رمَّ ؟ فقال : نعم " فنزلت . فعلى الأول : تكون الآية عامة لكل إنسان ، وعلى الثاني : خاصة بالكافر . والأول أظهر . ولمَّا ذكر نعمة الإيجاد ذكر نعمة الإمداد ، فقال : { والأنعامَ } وهي : الإبل والبقر والغنم ، { خلقها } : أوجدها { لكم فيها دِفءٌ } ما يُدْفأُ به فيقي البرد ، يعني : ما يتخذ من جلود الأنعام وأصوافها من الثياب ، { و } لكم فيها أيضًا { منافعُ } أُخر كنسلها وظهورها . وإنما عبَّر بالمنافع ليتناول عِوضها . { ومنها تأكلون } أي : تأكلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم والألبان . { ولكم فيها جَمَالٌ } أي : زينة وبهجة { حين تُريحون } تردونها من مراعيها إلى مِرَاحِها بالعشي ، { وحين تسرحون } تخرجونها إلى المرعى بالغداة فإن الأفنية والمشارعَ والطرق تتزين بها في الذهاب والرواح ، ويجل أهلها في أعين الناظرين إليها . وقدَّم الإراحة لأن الجمال فيها أظهر لأنها تقبل ملأى البطون ، حاملة الضروع ، ثم تأوي إلى الحظائر حاضرة لأهلها . { وتحمل أثقالكم } : أحمالكم عليها من الأمتعة وغيرها { إلى بلدٍ } بعيد ، { لم تكونوا بالغيه } عليها ، فضلاً عن أن تحملوها على ظهوركم ، { إلا بِشِقِّ الأنفس } إلا بكلفة ومشقة فديحة ، أو : إلا بذهاب شِقها ، أي : نصف قوتها من التعب . { إن ربكم لرؤوف رحيم } حيث رحمكم بخلقها وذللها للحمل ، والركوب عليها ، وأنعم عليكم بالكل من لحومها وألبانها . { و } خلق لكم { الخيلَ والبغال والحميرَ لتركبوها } ، { و } تتزينوا بها { زينةً } ، أو للركوب والزينة . قال البيضاوي : وتغيير النظم - أي : حيث لم يقل : وللزينة - لأن الزينة بفعل الخالق ، والركوب من فعل المخلوق - أي : باعتبار الحكمة - ، ولأن المقصود خلقها للركوب ، وأما التزين بها فحاصل بالعَرَضِ . وقرئ بغير واو ، فيحتمل أن يكون علة لركوبها ، أو مصدرًا في موضع الحال من الضمير ، أي : متزينين ، أو متزينًا بها . واستُدِلَّ به على حرمة لحومها ، ولا دليل فيه إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يُقصد منه ، غالبًا ، ألا يقصد منه غيره أصلاً ، ويدل عليه أن الآية مكية . وعامة المفسرين والمحدثين أن الحمر الأهلية حرمت عام خيبر . هـ . { ويخلق ما لا تعلمون } مما لا يُحيط البشرُ بعلمها من عجائب المخلوقات ، وضروب المصنوعات ، مما يؤكل ومما لا يؤكل ، وما خلق في الجنة والنار ، مما لا يخطر على قلب بشر . { وعلى الله قصدُ السبيل } أي : وعلى الله بيان السبيل القصد ، أي : الطريق الموصل إلى المقصود . أو : على الله تقويم طريق الهدى بنصب الأدلة وبعث الرسل ، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي : السبيل القصد ، أي : القاصد المستقيم الموصل إلى المطلوب كأنه يقصد الوجه الذي يقصده السالك لا يميل عنه . والمراد من السبيل : الجنس ، ولذلك أضاف إليه القصد ، وقال : { ومنها جائرٌ } عن القصد ، أو عن الله ، كطريق اليهود والنصارى وغيرهم . والسبيل بمعنى الطريق ، يُذكر ويؤنث ، وأُنِّثَ هنا . وتغيير الأسلوب - أي : حيث لم يقل : قصد السبيل والجائر - لأنه ليس بحق على الله أن يبين طريق الضلالة ، ولأن المقصود ، بالأصالة ، بيان سبيله ، وتقسيمُ السبيل إلى القصد والجائر إنما جاء بالعرض . { ولو شاء لهداكم أجمعين } أي : ولو شاء هدايتكم أجمعين لهداكم إلى قصد السبيل ، هداية مستلزمة للاهتداء . قاله البيضاوي . الإشارة : هذه العوالم من العرش إلى الفرش كلها نُصبت للآدمي ، وخلقت من أجله ، السماوات تُظله ، والأرض تُقله ، والحيوانات تخدمه وتنفعه ، يتصرف فيها خليفة عن الله في ملكه . فالواجب عليه شكر هذه النعم ، وألا يقف معها ، ويشتغل بها عن خدمة خالقها . يقول الحق تعالى ، في بعض كلامه بلسان الحال أو المقال : " يا ابنَ آدم ، خَلَقْتُ الأَشياءَ مِن أَجْلِكَ ، وخَلَقْتُكَ مِنْ أجِلْي ، فَلا تَشْتَغِل بما خُلِق لأجلك عَمَّا خُلِقْت لأجْله " والواجب عليه أيضًا من طريق الخصوص : ألا يقف مع حس أجرامها ، دون النفوذ إلى أسرار معاني خالقها ومُظهرها لئلا يبقى مسجونًا بمحيطاته ، محصورًا في هيكل ذاته ، بل ينفذ إلى فضاء شهود بحر المعاني ، المحيط بالأواني ، والمفني لها ، بصحبة شيخ كامل ، يُخرجه من سجن الأكوان إلى فضاء شهود المُكوِّن . وبالله التوفيق . وقوله : { وعلى الله قصد السبيل } : اعلم أن الحق - جلّ جلاله - بيَّن طريق الوصول إلى نعيمه الحسي والفوز برضوانه ، وطريق الوصول إلى حضرة قدسه ومحل شهوده وعيانه ، وأرسل الرسل ببيان الطريقين . فوكل ببيان الأولى العلماء ، ووكل ببيان الثانية الأولياء . فالعلماء قاموا ببيان الشرائع الموصلة إلى نعيم الأشباح ، والأولياء العارفون قاموا ببيان الحقائق الموصلة إلى نعيم الأرواح ، وهو النعيم الأكبر قال تعالى : { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ } [ التّوبَة : 72 ] . فالرضوان على قسمين : قوم نالهم الرضوان من طريق الخطاب مع سدْل الحجاب ، وهم أهل الشرائع ، وقوم نالهم الرضوان بمكافحة الخطاب ورفع الحجاب ، وهم أهل الحقائق ، وهم المقربون ، نفعنا الله بهم ، وخرطنا في سلكهم . آمين . ثمَّ ذكر بقية التجليات فقال : { هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ … }