Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 48-50)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : الاستفهام للإنكار ، و { من شيء } : بيان لـ " ما " . والضمير في { ظلاله } يعود على { ما } ، أو على { شيء } . و { سُجَّدًا } : حال من الظلال ، وكذا جملة : { وهم داخرون } ، وجمعه بالواو لأنه من صفة العقلاء . وقال الزمخشري : هما حالان من الضمير في { ظلاله } إذ هو بمعنى الجمع لأنه يعود على قوله : { من شيء } ، فعلى الأول يكون السجود من صفة الظلال ، وعلى الثاني يكون من صفة الأجرام . و { من دابة } : يحتمل أن يكون بيانًا لـ { ما في السماوات وما في الأرض } معًا لأن كل حيوان يصح أن يوصف بأنه يدب ، ويحتمل أن يكون بيانًا لـ { ما في الأرض } خاصة ، فعلى الأولى : يكون عطف الملائكة عليه ، من عطف الخاص على العام تشريفًا لهم ، وعلى الثاني : من عطف المباين . يقول الحقّ جلّ جلاله : { أوَلَمْ يرَوا } أي : أهل المكر والخدع بالرسل والمؤمنين ، { إلى ما خلق الله من شيء } من الأجرام والأشكال كالجبال والأشجار والبحار ليظهر لهم كمال قدرته وقهره ، فيخافوا سطوته وبطشه ، حتى لا يمكروا بخواصه . حال كون ما خلق من الأجرام { يتفيّؤا } أي : يميل { ظلالُه عن اليمين والشمائل } أي : يرجع الظل من جانب إلى حانب ، أي : يميل عن الأيمان والشمائل ، وذلك أن الظل من وقت طلوع الشمس إلى الزوال يكون إلى جهة ، ومن الزوال إلى الغروب يكون إلى جهة أخرى . ثم يمتد الظل ويعم بالليل إلى طلوع الشمس . والتفيؤ : من الفيء ، وهو : الظل الذي يرجع بعكس ما كان غدوة . وقال رُؤبة بن العجاج : يقال بعد الزوال : ظل وفيءٌ ، ولا يقال قبله إلا ظل . ففي لفظ " يتفيأ " ، هنا ، تجوز . وقال في سلوة الأحزان : فاء الظل : معناه : رجع بعكس ما كان من بكرة إلى الزوال وذلك أن الشمس من وقت طلوعها إلى الزوال ، إنما هي في نسخ الظل العام قبل طلوعها ، فإذا زالت ، ابتدأ رجوع الظل العام ، ولا يزال ينمو حتى تغيب الشمس فيعم . والظل الممدود في الجنة لم يذكر الله تعالى فيها فيئًا لأنه لا مُذهِبَ له ، ولا تكون الفيأة إلا بعد ذهاب الظل ، ولا ذهاب لظل الجنة ، فلا يتعقل له فيأة . هـ . واستعمال اليمين والشمال ، في غير الإنسان ، تجوز فإنهما في الحقيقة خاص بالإنسان . هـ . حال كون تلك الأجرام ، أو الظلال { سُجَّدًا لله } ، قيل : حقيقة . قال الضحاك : إذا زالت الشمس سَجد كل شيء قبلَ القبلة ، من نباتٍ أو شجر ، ولذلك كان الصالحون يستحبون الصلاة في ذلك الوقت . وقال مجاهد : إنما تسجد الظلال ، لا الأشخاص . وقيل : هو عبارة عن الخضوع والطاعة ، وميلان الظلال ودورانها بالسجود ، كما يقال للمشير برأسه نحو الأرض ، على جهة الخضوع : ساجدًا ، ثم استشهد لذلك . هـ . قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي : والمتَّجَهُ : أنه خضوع وطاعة للمشيئة وانقياد ، لا حقيقة لأنه لا يقال فيه ، كذلك : أو لم يروا ، وإنما يُرَى الانقياد . وخص الظل لأنه مشهود ذلك فيه ، ولو حاول صاحبه عدمه أو ضده ، لم يستطع ، بخلاف الأفعال الاختيارية ، فإن الجبر فيها غير محسوس ، فظهر سر الإشارة للظلال . والله أعلم . هـ . قال البيضاوي : المراد من السجود : الاستسلام ، سواء كان بالطبع أو الاختيار ، يقال : سجدت النخلة ، إذا مالت لكثرة الحمل ، وسجد البعير ، إذا طأطأ رأسه ليركب . أو { سُجّدًا } : حال من الظلال { وهم داخرون } : حال من الضمير ، والمعنى : ترجع الظلال ، بارتفاع الشمس وانحدارها ، بتقدير الله تعالى ، من جانب إلى جانب ، منقادة إلى ما قُدِّر لها من التفيؤ ، أو واقعة على الأرض ، ملتصقة بها ، على هيئة الساجد ، والأجرام في أنفسها أيضًا داخرة ، أي : صاغرة منقادة لأفعال الله . هـ . { ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض } أي : ينقاد لإرادته ، وتأثير قدرته طبعًا ، ولتكليفه وأمره طوعًا ليصح إسناده إلى عامة أهل السماوات والأرض . وقوله : { من دابة } : بيان لهما لأن الدبيب هو الحركة الجسمانية ، سواء كان في أرض أو سماء ، { والملائكةُ } عطف على المبين به ، عطف خاص على عام ، أو عطف المجردات على الجسمانيات ، وبه احتج من قال : إن الملائكة أرواح مجردة . قاله البيضاوي . قلت : وهو خلاف الجمهور . بل الملائكة : أجسام لطيفة نورانية متحيزة ، لها مادة نورانية وتشكيل مخصوص ، غير أن الله تعالى أعطاها قوة التشكيل لأنها قريبة من أسرار المعاني الأزلية . وعبَّر الحق تعالى بـ " ما " ليشمل العقلاء وغيرهم . ثم قال تعالى في وصف الملائكة : { وهم لا يستكبرون } عن عبادته ، { يخافون ربهم من فوقهم } هو تقرير وبيان لنفي الاستكبار عنهم ، أي : يخافون عظمة ربهم من فوقهم إذ هم محاطون بأفلاك أسرار الجبروت ، مقهورون تحت القدرة والمشيئة أو : يخافون عذاب ربهم أن يُرْسَل عليهم من فوقهم ، أو : يخافون ربهم وهو من فوقهم بالقهر والغلبة . والجملة : حال من الضمير في { يستكبرون } ، أو بيان له وتقرير لأن من خاف ربه لم يستكبر عن عبادته ، { ويفعلون ما يُؤمرون } من الطاعة وتدبير الأمور التي أمرهم بتدبيرها . وفيه دليل على أن الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف والرجاء . قاله البيضاوي . الإشارة : كل ما دخل تحت عالم التكوين لزمته العبودية ، وأحاطت به القهرية ، فلا بدّ من الخضوع لأحكام الواحد القهار ، تكليفية كانت أو تعريفية ، فمن لم ينقد لها بملاطفة الإحسان ، قيد بسلاسل الامتحان . وبهذا امتاز الخصوص من العموم ، فالخصوص علموا أن سلسلة الأقدار في عنقهم ، تجرهم إلى مراد ربهم ، فاستسلموا لها ، وانقادوا ، وخضعوا ، وتأدبوا لها ، فاستحقوا التقريب والاصطفائية . والعموم جهلوا هذه السلسلة ، أو علموها ، ولم يقدروا على الاستسلام لها فاستحقوا البُعد من حضرة الحق إذ لا يدخلها إلا أهل التهذيب والتأديب . وبالله التوفيق . ثم نهى عن الشرك الجلي والخفي فقال : { وَقَالَ ٱللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ … }