Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 18-22)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { لمن نُريد } : بدل من ضمير { له } بدل بعض من كل . و { كُلاًّ } : مفعول { نُمد } ، و { هؤلاء } : بدل منه . و { كيف } : حال ، و { درجات } و { تفضيلاً } : تمييز . يقول الحقّ جلّ جلاله : { مَن كان يُريد } بعمله الدنيا { العاجلةَ } ، مقصورًا عليها همه ، { عجَّلنا له فيها ما نشاء لمن نُريد } التعجيل له . قيَّد المعجل والمعجل له بالمشيئة والإرادة لأنه لا يجد كل متمن ما يتمناه ، ولا كل واحد جميع ما يهواه . قاله البيضاوي : { ثم جعلنا له } في الآخرة { جهنم يصلاها } يدخلها ويحترق بها ، حال كونه { مذمومًا مدحورًا } مطرودًا من رحمة الله . والآية في الكفار ، وقيل : في المنافقين ، الذين يغزون مع المسلمين لقصد الغنائم . والأصح : أنها تعم كل من اتصف بهذا الوصف . { ومَن أراد الآخرةَ وسعى لها سعيها } عمل لها عملها اللائق بها ، وهو : الإتيان بما أمر به ، والانتهاء عما نهى عنه ، لا التقرب بما يخترعون بآرائهم . وفائدة اللام في قوله : " لها " : اعتبار النية والإخلاص . والحال أن العامل { مؤمن } إيمانًا صحيحًا لا شرك معه ولا تكذيب ، فإنه العمدة ، { فأولئك } الجامعون للشروط الثلاثة { كان سعيهم مشكورًا } عند الله ، مقبولاً مثابًا عليه فإن شُكر الله هو الثواب على الطاعة . { كُلاًّ نُّمدُّ } أي : كل واحد من الفريقين نُمد بالعطاء مرة بعد أخرى ، { هؤلاء } المريدين للدنيا ، { وهؤلاء } المريدين للآخرة ، نُمد كلا { من عطاء ربك } في الدنيا ، { وما كان عطاءُ ربك } فيها { محظورًا } ممنوعًا من أحد ، لا يمنعه في الدنيا مؤمن ولا كافر ، تفضلاً منه تعالى . { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض } في الرزق والجاه ، { وللآخِرةُ أكبرُ درجاتٍ وأكبرُ تفضيلاً } من الدنيا ، فينبغي الاعتناء بها دونها ، والتفاوت في الآخرة حاصل للفريقين ، فكما تفاوتت الدرجات في الجنة تفاوتت الدركات في النار . وسبب التفاوت : زيادة اليقين ، والترقي في أسرار التوحيد لأهل الإيمان ، أو الانهماك في الكفر والشرك لأهل الكفران . ولذلك قال تعالى : { لا تجعلْ مع الله إِلهًا آخر } تعبده . والخطاب لكل سامع ، أو للرسول صلى الله عليه وسلم ، والمراد أمته ، { فتقعد } فتصير حينئذ { مذمومًا مخذولاً } جامعًا على نفسك الذم من الملائكة والمؤمنين ، والخذلان من الله . ومفهومه : أن الموحد يكون ممدوحًا منصورًا في الدارين . الإشارة : قال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ ، فَرَّقَ اللهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ ، وجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَلَمْ يَأتِهِ مِنَ الدُّنْيا إلاَّ مَا قُسِمَ لَهُ . وَمَنْ كَانَتِ الآخِرةُ نِيَّتَهُ ، جَمَعَ الله عليه أَمْرَهُ ، وجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِه ، وأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ صَاغِرَةٌ " ، واعلم أن الناس على قسمين قوم أقامهم الحق لخدمته ، وهم : العباد والزهاد ، وقوم اختصهم بمحبته ، وهم : العارفون بالله أهل الفناء والبقاء ، قال تعالى : { كلا نُمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورًا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض } في الكرامات والأنوار ، وفي المعارف والأسرار . وفضلُ العارفين على غيرهم كفضلِ الشمس على سائر الكواكب ، هذا في الدنيا ، { وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً } ، يقع ذلك بالترقي في معارج أسرار التوحيد ، وبتفاوت اليقين في معرفة رب العالمين . وقال القشيري في تفسير الآية : منهم من لا يغيب عن الحضرة لحظة ، ثم يجتمعون في الرؤية ، ويتفاوتون في النصيبِ لكلٍّ . وليس كلُّ أحد يراه بالعين الذي يراه به صاحبه . وأنشدوا : @ لو يَسْمَعُون كما سمعتُ حديثها خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وسجودا @@ وقال الورتجبي : فضَّل العابدين بعضهم على بعض في الدنيا بالطاعات ، وفضَّل العارفين بعضهم على بعض بالمعارف والمشاهدات ، فالعباد في الآخرة في درجات الجنان متفاوتون ، والعارفون في درجات وصال الرحمن متفاوتون . وقال القشيري أيضًا : من كانت مشاهدته اليوم على الدوام ، كانت رؤيته غدًا على الدوام ، ومن لا فلا . هـ . وقد تقدم تفاوت الناس في الرؤية بأبسط من هذا ، عند قوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ } [ الأنعام : 103 ] . والله تعالى أعلم . ثمَّ بين السعي للآخرة