Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 15-17)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحقّ جلّ جلاله : { مَن اهتدى } وآمن بالله وبما جاءت به الرسل { فإِنما يهتدي لنفسه } لأن ثواب اهتدائه له ، لا يُنجي اهتداؤه غيره ، { ومن ضلَّ } عن طريق الله { فإِنما يضلُّ عليها } لأن إثم إضلاله على نفسه ، لا يضر به غيره في الآخرة { ولا تزر } أي : لا تحمل نفس { وازرةٌ } آثمة { وِزرَ } نفس { أخرى } أي : ذنوب نفس أخرى ، بل إنما تحمل وزرها ، إلا من كان إمامًا في الضلالة ، فيحمل وزره ووزر مَن تبعه ، على ما يأتي في آية أخرى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13 ] . ومن كمال عدله تعالى : أنه لا يُعذِّب حتى يُنذر ويُعذر على ألسنة الرسل ، كما قال تعالى : { وما كنا مُعذبين } أحدًا في الدنيا ولا في الآخرة { حتى نبعث رسولاً } يُبين الحجج ويمهد الشرائع ، ويلزمهم الحجة . وفيه دليل على أن لا حُكم قبل الشرع ، بل الأمر موقوف إلى وروده ، فمن بلغته دعوته ، وخالف أمره ، واستكبر عن أتباعه ، عذبناه بما يستحقه . وهذا أمر قد تحقق بإرسال آدم عليه السلام ومن بعده من الأنبياء الكرام - عليهم السلام - في جميع الأمم ، قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً } [ النحل : 36 ] ، { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ] ، فإن دعوتهم إلى الله قد انتشرت ، وعمت الأقطار ، واشتهرت ، انظر إلى قول قريش الذين لم يأتهم نبي بعد إسماعيل عليه السلام : { مَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِى ٱلْمِلَّةِ ٱلآخِرَةِ } [ ص : 7 ] فإنه يُفهم منه أنهم سمعوه في الملة الأولى ، فمن بلغته دعوة أحد منهم ، بوجه من الوجوه فقصَّر ، فهو كافر مستحق للعذاب . فلا تغتر بقول كثير من الناس بنجاة أهل الفترة ، مع إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن آباءهم ، الذين مضوا في الجاهلية ، في النار ، وأن ما يدحرج من الجُعَل ، خير منهم ، إلى غير ذلك من الأخبار . قاله البقاعي . وقال الإمام أبو عبد الله الحليمي - أحد أجلاء الشافعية ، وعظماء أئمة الإسلام - في أول منهاجه ، في باب : " من لم تبلغه الدعوة " : وإنما قلنا : إن من كان منهم عاقلاً مميزًا إذا رأى ونظر ، إلا أنه لا يعتقد دينًا فهو كافر لأنه ، وإن لم يكن سمع دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فلا شك أنه سمع دعوة أحد من الأنبياء قبله ، على كثرتهم وتطاول أزمان دعوتهم ، ووفور مُددِ الذين آمنوا واتبعوهم ، والذين كفروا بهم وخالفوهم ، فإنَّ الخبر قد يبلغ على لسان المخالف ، كما يبلغ على لسان الموافق ، وإذا سمع آيَّةَ دعوة كانت إلى الله تعالى ، فترك أن يستدل بعقله ، كان مُعْرِضًا عن الدعوة فكفر ، والله أعلم . وإن أمكن أن يكون لم يسمع قط بدين ، ولا بدعوة نبي ، ولا عرف أن في العالم من يُثبت إلهًا ، وما نرى أن ذلك يكون ، فأمره على الاختلاف ، يعني : عند من يُوجب الإيمان بمجرد العقل ، ومن لا يُوجبه إلا بانضمام النقل . هـ . وقال الزركشي ، في آخر باب النيات ، من شرحه على المنهاج : وقد أشار الشافعي إلى عسر تصور عدم بلوغ الدعوة ، حيث قال : وما أظن أحدًا إلا بلغته الدعوة ، إلا أن يكون قوم من وراء النهر . وقال الدميري : وقال الشافعي : ولم يبق أحد لم تبلغه الدعوة . انتهى على نقل شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه . ثم قال تعالى : { وإِذا أردنا أن نُهلك قريةً } أي : تعلقت إرادتنا بإهلاكها لإنفاذ قضائنا السابق ، ودنا وقتُ إهلاكها ، { أمرنا مُتْرفيها } منعميها ، بمعنى رؤسائها بالطاعة على لسان رسول بعثناه إليهم ، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده ، فإن الفسق هو الخروج عن الطاعة ، لقوله : { ففسقُوا فيها } خرجوا عن أمرنا . وقيل : أمرناهم : ألهمناهم الفسق وحملناهم عليه ، أو : جعلنا لهم أسباب حملهم على الفسق بأن صببنا عليهم من النعم ما أبطرهم ، وأفضى بهم إلى الفسوق ، { فحقَّ عليها القولُ } وجب عليها كلمة العذاب السابق بحلوله ، أو بظهور معاصيهم . { فدمرناها تدميرًا } أهلكناها بإهلاك أهلها وتخريبها . { وكم أهلكنا } أي : كثيرًا أهلكنا { من القُرون } أي : الأمم { من بعد نوح } كعاد وثمود وأصحاب الأيكة ، { وكفى بربك بذنوب عباده خبيرًا بصيرًا } عالمًا ببواطنها وظواهرها ، فيعاقب عليها أو يعفو . وبالله التوفيق . الإشارة : من اهتدى إلى حضرة قدسنا فإنما يهتدي لينعم نفسه بأسرار قدسنا ، ومن ضل عنها فإنما يضل عليها حيث حرمها لذيذ المعرفة . فإن كان في رفقة السائرين ، ثم غلبه القضاء ، فلا يتعدى وبال رجوعه إلى غيره ، بل ما كان يصل إليه من المدد يرجع إلى أصحابه ، وما كنا معذبين أحدًا بإسدال الحجاب بيننا وبينه ، حتى نبعث من يُعَرِّف بنا ، ويكشف الحجاب بيننا وبين من يريد حضرتنا . والمراد بالحجاب : حجاب الوهم بإثبات حس الكائنات ، فلو انهتك حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان ، ولو أشرق نورُ الإيقان لغطى وجودَ الأكوان . وإذا أردنا أن نتلف قلوبًا أمرنا أربابها بالتنعم بالحظوظ والشهوات ، فخرجوا عن طريق المجاهدة والرياضة ، فحق عليها القول بغم الحجاب ، فدمرناها تدميرًا ، أي : تركناها تجول في أودية الخواطر والشكوك ، فتلفت وهلكت ، نعوذ بالله من شر الفتن ودرك المحن . وسبب الهلاك هو حب الدنيا