Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 36-40)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : قفا الشيء يقفوه : تبعه . والضمير في " عنه " : يجوز أن يعود لمصدر " لا تَقْفُ " ، أو لصاحب السمع والبصر . وقيل : إن " مسؤولاً " مسند إلى " عنه " كقوله تعالى : { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } [ الفَاتِحَة : 7 ] ، والمعنى : يسأل صاحبه عنه ، وهو خطأ لأن الفاعل وما يَقوم مقامه لا يتقدم . قاله البيضاوي . قال ابن جزي : الإشارة في " أولئك " : إلى السمع والبصر والفؤاد ، وإنما عاملها معاملة العقلاء في الإشارة بأولئك لأنها حواس لها إدراك ، والضمير في " عنه " : يعود على " كل " ، ويتعلق " عنه " بمسؤُولاً . هـ . وضمير الغائب يعود على المصدر المفهوم من " مسؤولاً " . و { مَرَحًا } : مصدر في موضع الحال . و { مكروهًا } : نعت لسيئة ، أو بدل منها ، أو خبر ثان لكان . يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولا تَقْفُ } تتبع { ما ليس لك به علمٌ } ، فلا تقل ما لا تحقيق لك به من ذم الناس ورميهم بالغيب . فإذا قلت : سمعتُ كذا ، أو رأيت كذا ، أو تحقق عندي كذا ، مما فيه نقص لأحد ، فإنك تُسأل يوم القيامة عن سند ذلك وتحقيقه . وهذا معنى قوله : { إِنَّ السمعَ والبصرَ والفؤادَ كلُّ أولئك كان عنه مسؤولاً } . قال البيضاوي : ولا تتبع ما لم يتعلق علمك به تقليدًا ، أو رجمًا بالغيب . واحتج به من منع اتباع الظن ، وجوابه : أن المراد بالعلم هو الاعتقاد الراجح المستفاد من سند ، سواء كان قطعيًا أو ظنيًا إذ استعماله بهذا المعنى شائع . وقيل : إنه مخصوص بالعقائد . وقيل : بالرمي وشهادة الزور ، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم : " من قَفَا مُؤْمنًا بِمَا لَيْسَ فِيهِ ، حَبَسَهُ اللهُ فِي رَدْغَةِ الخَبَالِ ، حَتَّى يَأتِيَ بِالمَخْرَجِ " { إِن السمعَ والبصرَ والفؤاد كلُّ أولئك } أي : كل هذه الأعضاء الثلاثة { كان عنه مسؤولاً } كل واحد منها مسؤول عن نفسه ، يعني : عما فعل به صاحبه . هـ . مختصرًا . { ولا تمشِ في الأرض مرحًا } أي : ذا مرح ، وهو : التكبر والاختيال ، { إِنك لن تخرق الأرضَ } لن تجعل فيها خرقًا لشدة وطأتك { ولن تبلغ الجبال طُولاً } تتطاول عليها عزّا وعلوا ، وهو تهكم بالمختال ، وتعليل للنهي ، أي : إذا كنت لا تقدر على هذا ، فلا يناسبك إلا التواضع والتذلل بين يدي خالقك ، { كلُّ ذلك } المذكور ، من قوله : { لا تجعل مع الله إلهًا آخر } إلى هنا ، وهي : خَمْسٌ وعشرون خصلة ، قال ابن عباس : إنها المكتوبة في ألواح موسى ، فكل ما ذكر { كان سَيّئة عند ربك } أي : خصلة قبيحة { مكروهًا } أي : مذمومًا مبغوضًا . والمراد بما ذكر : من المنهيات دون المأمورات . { ذلك مما أَوحى إِليك ربُّك من الحكمة } التي هي علم الشرائع ، أو معرفة الحق لذاته ، والعلم للعمل به . { ولا تجعلْ مع الله إلهًا آخر } ، كرره ، للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه ، وأنه رأس الحكمة وملاكها ، ومن عُدِمَهُ لم تَنْفَعْهُ علومه وحِكمه ، ولو جمع أساطير الحكماء ، ولو بلغت عنان السماء . والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، والمراد : غيره ممن يتصور منه ذلك . ورتب عليه ، أولاً : ما هو عاقبة الشرك في الدنيا ، وهو : الذم والخذلان ، وثانيًا : ما هو نتيجته في العقبى . فقال : { فتُلقى في جهنم ملومًا } تلوم نفسك ، وتلومك الملائكة والناس ، { مدحورًا } مطرودًا من رحمة الله . ثم قبَّح رأيهم في الشرك ، فقال : { أفأصفاكُم رَبُّكم بالبنين } ، وهو خطاب لمن قال : الملائكة بنات الله . والهمزة للإنكار ، أي : أفخصَّكم ربكُم بأفضل الأولاد ، وهم البنون ، { واتخذَ من الملائكة إِناثًا } بناتٍ لنفسه ، { إِنكم لتقولون قولاً عظيمًا } أي : عظيم النكر والشناعة ، لا يُقْدَرُ قَدْرُهُ في إيجاب العقوبة لخرمه لقضايا العقول ، بحيث لا يجترئ عليه أحد حيث تجعلونه تعالى من قبيل الأجسام المتجانسة السريعة الزوال ، ثم تضيفون إليه ما تكرهونه ، وتُفضلون عليه أنفسكم بالبنين ، ثم جعلتم الملائكة ، الذين هم أشرف الخلق ، أدونهم ، تعالى الله عن قولكم علوًا كبيرًا . الإشارة : ينبغي للإنسان الكامل أن يكون في أموره كلها على بينة من ربه ، فَيُحَكِّمُ على ظاهره الشريعة المحمدية ، وعلى باطنه الحقيقة القدسية ، فإذا تجلى في باطنه شيء من الواردات أو الخواطر فليعرضه على الكتاب والسُنَّة ، فإن قبلاه أظهره وفعله ، وإلاَّ رده وكتمه ، كان ذلك الأمر قوليًا أو فعليًا ، أو تركًا او عقدًا فقد انعقد الإجماع على أنه لا يحل لامرئٍ مسلم أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه ، وإليه الإشارة بقوله : { ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم } ، فإن لم يجد نصًا في الكتاب أو السنة فليستفت قلبه ، إن صفا من خوض الحس ، وإن لم يَصْفُ فليرجع إلى أهل الصفاء ، وهم أهل الذكر . قال تعالى : { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ النّحل : 43 ] ، ولا يستفت أهل الظنون ، وهم أهل الظاهر ، قال تعالى : { إِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً } [ يُونس : 36 ] . وقال القشيري في تفسير الآية هنا : { ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم } أي : جانب محاذاة الظنون ، وما لم يُطْلِعْكَ الله عليه ، فلا تتكلف الوقوف عليه من غير برهان . فإذا أُشْكِلَ عليك شيءٌ في حكم الوقت ، فارجعْ إلى الله ، فإِنْ لاحَ لقلبك وَجْهٌ من التحقيق فكن مع ما أريد ، وإن بقي الحال على حدِّ الالتباس فَكِلْ عِلْمَه إلى الله ، وقِفْ حيثما وقفت . ويقال : الفرق بين من قام بالعلم ، ومن قام بالحق : أنَّ العلماء يعرفون الشيء أولاً ، ثم يعملون بعلمهم ، وأصحابُ الحقائق يجْرِي ، بحكم التصريف عليهم ، شيءٌ ، ولا عِلمَ لهم به على التفصيل ، وبعد ذلك يُكْشَف لهم وجههُ ، فربما يجري على لسانهم شيءٌ لا يدرون وَجْهَه ، ثم بعد فراغهم من النطق به يظهر لقلوبهم برهانُ ما قالوه من شواهد العلم إذ يتحقق ذلك بجريان الحال في ثاني الوقت . انتهى . قلت : وإلى هذا المعنى أشار في الحكم العطائية بقوله : " الحقائق ترد في حال التجلي مُجْمَلَةً ، وبعد الوعي يكون البيان ، { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } " . قوله تعالى : { ولا تمشِ في الأرض مرحًا } ، ورد في بعض الأخبار ، في صفة مشي الصوفية : أنهم يدبون على أقدامهم دبيب النمل ، متواضعين خاشعين ، ليس فيه إسراع مُخل بالمروءة ، ولا اختيال مُخل بالتواضع . والله تعالى أعلم . ثمَّ أمر بالرجوع إلى كتابه فقال : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ … }