Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 42-44)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحقّ جلّ جلاله : { قلْ } يا محمد : { لو كان معه } في الوجود { آلهةٌ } تستحق أن تُعبد ، { كما تقولون } أيها المشركون ، أو كما يقول المشركون أيها الرسول ، { إِذًا لابتَغَوا } لطلبوا { إلى ذي العرش سبيلاً } طريقًا يقاتلونه . وهذا جواب عن مقالتهم الشنعاء . والمعنى : لطلبوا إلى من هو ملك الملك طريقًا بالمعاداة ، كما تفعل الملوك بعضهم مع بعض . وهذا كقوله : { إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } [ المؤمنون : 91 ] . وقيل : لابتغوا إليه سبيلاً بالتقرب إليه والطاعة لعلمهم بقدرته ، وتحققهم بعجزهم ، كقوله : { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ } [ الإسرَاء : 57 ] . ثم نزّه نفسه عن ذلك فقال : { سبحانه } تنزيهًا له { وتعالى } ترافع { عمّا يقولون } من الشركاء ، { عُلوًا } تعاليًا { كبيرًا } لا غاية وراءه . كيف لا وهو تعالى في أقصى غاية الوجود ! وهو الوجوب الذاتي ، وما يقولونه من أنَّ له تعالى شركاء وأولادًا ، في أبعد مراتب العدم ، أعني : الامتناع لأنه من خواص المحدثات الفانية . { يسبح له السماواتُ السبعُ } أي : تنزهه ، { والأرضُ ومَن فيهن } كلها تدل على تنزيهه عن الشريك والولد ، { وإِنْ من شيء إِلا يُسبح بحمده } ينزهه عما هو من لوازم الإمكان ، وتوابع الحدوث ، بلسان الحال ، حيث تدل بإمكانها وحدوثها على الصانع القديم ، الواجب لذاته . قاله البيضاوي . وظاهره : أن تسبيح الأشياء حَالِيُّ لا مقالي ، والراجح أنه مقالي . ثم مع كونه مقالياً لا يختص بقول مخصوص ، كما قال الجلال السيوطي ، أي : تقول : سبحان الله وبحمده . بل كل أحد يُسبح بما يناسب حاله . وإلى هذا يرشد كلام أهل الكاشف ، حتى ذكر الحاتمي : أن من لم يسمعها مختلفة التسبيح لم يسمعها ، وإنما سمع الحالة الغالبة عليه . وورد في الحديث : " ما اصطيد حوت في البحر ، ولا طائر يطير ، إلاَّ بما ضيع من تسبيح الله تعالى " وفي الحديث أيضًا : " ما تطلع الشمس فيبقى خلق من خلق الله ، إلا يسبح الله بحمده ، إلا ما كان من الشيطان وأعتى بني آدم " . ومذهب أهل السنة : عدم اشتراط البِنية للعلم والحياة ، فيصح الخشوع من الجماد ، والخشية لله والتسبيح منه له . وقد قال ابن حجر على حديث حنين الجذع : فيه دلالة على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكًا كالحيوان ، بل كأشرف الحيوان ، وفيه تأييد لمن يحمل قوله : { وإِن من شيء إِلا يُسبح بحمده } على ظاهره . هـ . وقال ابن عطية : اختلف أهلُ العلم في هذا التسبيح فقالت فرقة : هو تجوز ، ومعناه : أن كل شيء تبدو فيه صفة الصانع الدالة عليه ، فتدعو رؤية ذلك إلى التسبيح من المعتبر . وقالت فرقة : قوله : { من شيء } : لفظه عموم ، ومعناه الخصوص في كل حي ونام ، وليس ذلك في الجمادات الميتة . فمن هذا قول عكرمة : الشجرة تُسبح ، والاسطوانة لا تُسبح . قال يزيد الرقاشي للحسن - وهما في طعام ، وقد قدّم الخِوان - : أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد ؟ فقال : قد كان يُسبح مدة . يريد أن الشجرة ، في زمان نموها واغتذائها ، تُسَبح . وقد صارت خوانًا أو نحوه ، أي : صارت جمادًا . وقالت فرقة : هذا التسبيح حقيقة ، وكل شيء ، على العموم ، يُسبح تسبيحًا لا يسمعه البشر ولا يفقهه ، ولو كان التسبيح ما قاله الآخرون من أنه أثر الصنعة ، لكان أمرًا مفهومًا ، والآية تنطق بأنه لا يُفقه ، وينفصل عنه بأن يريد بقوله : { لا تفقهون } : الكفار والغفلة ، أي : أنهم يُعرضون عن الاعتبار فلا يفقهون حكمة الله في الأشياء . هـ . قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن العارف : وربما يدل للعموم تسبيح الحصى في يده - عليه الصلاة والسلام - ، وكذا حنين الجذع ومحبة أُحد ، وكذا تسبيح الطعام . وأما التخصيص بالناميات من نبات غير يابس ، وحجر متصل بموضعه ، فهو خصوص تسبيح بالاستمداد إلى الحياة ، ولا ينتفي مطلق الاستمداد لأن الجماد يستمد الوجود وبقاءه من الله ، فهو عام ، وقد قال تعالى : { يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ } [ سَبَأ : 10 ] ، وتدبر حنين الجذع . هـ . وسيأتي في الإشارة بقية كلام عليه ، وقال البيضاوي أيضًا في قوله : { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } أيها المشركون لإخلالكم بالنظر الصحيح الذي به يفهم التسبيح . ويجوز أن يحمل التسبيح على المشترك من اللفظ والدلالة لإسناده إلى ما يتصور منه اللفظ ، وإلى ما لا يتصور منه ، وعليهما ، أي : ويحمل - عند من جوز إطلاق اللفظ على معنييه . هـ . { إِنه كان حليمًا } حيث لم يُعاجلكم بالعقوبة ، مع ما أنتم عليه من موجباتها من الإعراض عن النظر في الدلائل الواضحة ، الدالة على التوحيد ، والانهماك في الكفر والإشراك ، { غفورًا } لمن تاب منكم . وبالله التوفيق . الإشارة : كل ما دخل عالم التكوين من العرش إلى الفرش ، أو ما قُدر وجوده من غيرهما كله قائم بين حس ومعنى ، بين عبودية وربوبية ، بين قدرة وحكمة . فالحس محل العبودية ، فيه تظهر قهرية الربوبية ، والمعنى هو أسرار الربوبية القائمة بالأشياء ، فالأشياء كلها تنادي بلسان معناها ، وتقول : سبحانه ما أعظم شأنه ، ولكن لا يفقه هذا التسبيح إلا من خاض بحار التوحيد ، وغاص في أسرار التفريد . فالأشياء ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته ، قائمة من حيث حسها ، ممحوة من حيث معناها ، ولا وجود للحس من ذاته ، وإنما هو رداء لكبرياء ذاته . وفي الحديث ، في وصف أهل الجنة : " وليس بينهم وبين أن ينظروا إلى الرحمن إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " فمن خرق حجاب الوهم ، وفنى عن دائرة الحس في دار الدنيا ، لم يحتجب الحق تعالى عنه في الدارين طرفة عين . فتحصل أن الأشياء كلها تُسبح من جهة معناها بلسان المقال ، ومن جهة حسها بلسان الحال ، وتسبيحها كما ذكرنا . ولا يذوق هذا إلا من صحب العارفين الكبار ، حتى يخرجوه عن دائرة حس الأكوان إلى شهود المكون . وحسب من لم يصحبهم التسليم ، كما قال القائل : @ إذا لَمْ تَرَ الْهِلاَلَ فَسَلِّمْ لأُناسٍ رَأَوْهُ بِالأبْصارِ @@ والله تعالى أعلم . وسبب عدم فقه التسبيح الأشياء غفلة القلوب وطبع الأكنة .