Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 65-69)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { أفأمنتم } : الهمزة للتوبيخ ، والفاء للعطف على محذوف ، أي : أنجوتم من البحر فأمنتم . يقول الحقّ جلّ جلاله : { إِنَّ عبادي } المخلصين ، الذين يتوكلون عليَّ في جميع أمورهم ، { ليس لك عليهم سلطانٌ } أي : تسلط وقدرة على إغوائهم حيث التجأوا إليَّ ، واتخذوني وكيلاً { وكفى بربك وكيلاً } حافظاً لمن توكل عليه ، فيحفظهم منك ومن أتباعك . ثم ذكر ما يحث على التعلق به ، والتوكل عليه في جميع الأحوال الدينية والدنيوية ، فقال : { ربكم الذي يُزجي } يجري { لكم الفلك } ويسيرها { في البحر لتبتغوا من فضله } بالتجارة والربح ، وجَلْبِ أنواع الأمتعة التي لا تكون عندكم ، { إِنه كان بكم رحيمًا } في تسخيرها لكم حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه في سيرها ، وسهل عليكم ما يعسر من أسباب معاشكم ومعادكم . { وإِذا مسَّكم الضرُّ في البحر } يعني : خوف الغرق ، { ضَلَّ } غاب عنكم { من تَدْعُون } من تعبدون من الآلهة . أو : من تستغيثون به في حوادثكم ، { إِلا إِيَّاه } وحده ، فإنكم حينئذ لا يخطرُ ببالكم سواه ، ولا تدعون ، لكشفه ، إلا إياه ، فكيف تعبدون غيره ، وأنتم لا تجدون في تلك الشدة إلا إياه ؟ { فلما نجَّاكم } من الغرق { إِلى البر أعرضتم } عن التوحيد ، أو عن شكر النعمة ، { وكان الإِنسانُ كفورًا } بالنعم ، جحودًا لها ، إلا القليل ، وهو كالتعليل للإعراض . { أفأمِنْتُم } أي : أنجوتم من البحر ، وأمنتم { أن يَخْسف بكم جانبَ البرِّ } بأن يقلبه عليكم وأنتم عليه ، أو يخسف بكم في جوفه ، كما فعل بقارون ، { أو يُرسلَ عليكم حاصبًا } أي : ريحًا حاصبًا ، يرميكم بحصباء كقوم لوط ، { ثم لا تجدوا لكم وكيلاً } حافظاً لكم منه ، فإنه لا رادّ لفعله . { أم أمنتم أن يُعيدكم فيه تارةً أخرى } بأن يخلق فيكم دواعي تحملكم إلى أن ترجعوا لتركبوا فيه { فيُرسلَ عليكم قاصِفًا من الريح } أي : ريحًا شديدة ، لا تمر بشيء إلا قصفته ، أي : كسرته ، { فيُغرقكم } ، وعن يعقوب : " فتغرقكم " على إسناده إلى ضمير الريح . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : بنون التكلم في الخمسة . يفعل ذلك بكم { بما كفرتم } بكفركم ، أي : بسبب إشراككم ، أو كفرانكم نعمة الإنجاء ، { ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا } مطالبًا يتبعنا بثأركم ، كقوله : { وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا } [ الشمس : 15 ] ، أو : لا تجدوا نصيرًا ينصركم منه . والله تعالى أعلم . الإشارة : العباد الذين ليس للشيطان عليهم سلطان ، هم الذين أضافهم إلى نفسه بأن اصطفاهم لحضرة قدسه ، وشغلهم بذكره وأُنسه ، لم يركنوا إلى شيء سواه ، ولم يلتجئوا إلاَّ إلى حماه . فلا جرم أنه يحفظهم برعايته ، ويكلؤهم بسابق عنايته . فظواهرهم قائمة بآداب العبودية ، وبواطنهم مستغرقة في شهود عظمة الربوبية . فلمَّا قاموا بخدمة الرحمن ، حال بينهم وبين كيد الشيطان ، وقال لهم : ربكم الذي يُزجي لكم فلك الفكرة في بحر الوحدة لتبتغوا الوصول إلى حضرة الأحدية ، إنه كان بكم رحيمًا . ثم إذا غلب عليكم بحر الحقيقة ، وغرقتم في تيار الذات ، غاب عنكم كل ما سواه ، وطلبتم منه الرجوع إلى بر الشريعة ، فلما نجاكم إلى البر أعرضتم عن شهود السِّوى ، وجحدتم وجوده ، لكن القلوب بيد الرحمن ، يُقلبها كيف شاء فلا يأمن العارف من المكر ، ولو بلغ ما بلغ ، ولذلك قال : أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر فتغرقون في الحس ، وتشتغلون بعبادة الحس ، أو يُرسل عليكم حاصباً : وارداً قَهَّارِيًّا ، يُخرجكم عن حد الاعتدال ، أم أمنتم أن يُعيدكم في بحر الحقيقة ، تارة أخرى ، بعد الرجوع للبقاء ، فيرسل عليكم واردًا قهاريًا يُخرجكم عن حد الاعتدال ، ويحطكم عن ذروة الكمال ، ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا . والله تعالى أعلم . ثمَّ ذكر كرامة بني آدم وتفضيلهم رداً لقول الشيطان