Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 71-72)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : يجوز في { أعمى } - الثاني - : أن يكون وصفًا كالأول ، وأن يكون من أفعل التفضيل ، وهو أرجح لعطف " وأضل " عليه ، الذي هو للتفضيل . وقال سيبويه : لا يجوز أن يقال : هو أعمى من كذا ، وإنما يقال : هو أشد عمى ، لكن إنما يمتنع ذلك في عمى البصر ، لا في عمى القلب . قاله ابن جزي . يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر { يوم ندعو كلَّ أناس بإِمامهم } بنبيهم . فيقال : يا أُمَّةَ فلان ، يا أمة فلان ، احضروا للحساب . أو : بكتاب أعمالهم ، فيقال : يا صاحب الخير ويا صاحب الشر ، فهو مناسب لقوله : { فمن أُوتي … } الخ . وقال محمد بن كعب القرظي : بأسماء أمهاتهم ، فيكون جمع " أم " ، كخف وخفاف ، لكن في الحديث : " إِنكُم تُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ بأسمَائِكُمْ وأسمَاءِ آبَائِكًمْ " ، ولعل ما قاله القرظي مخصوص بأولاد الزنا . وفي البيضاوي : قيل : بأمهاتهم ، والحكمة في ذلك : إجلال عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين ، وألا يُفتضح أولاد الزنى . هـ . وقال أبو الحسن الصغير : قيل لأبي عمران : هل يدعى الناس بأمهاتهم يوم القيامة أو بآبائهم ؟ قال : قد جاء في ذلك شيء أنهم يدعون بأمهاتهم فلا يفتضحوا . وفي البخاري - باب يدعى الناس بآبائهم - ، وساق حديث ابن عمر : " يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ . يُقَالُ : هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنٍ ابنُ فُلاَن " ، فظاهر الحديث أنهم يدعون بآبائهم ، وهو الراجح ، إلا فيمن لا أب له . والله تعالى أعلم . ثم قال تعالى : { فمن أوتي كتابه بيمينه } أي : فمن أوتي صحيفة أعماله ، يومئذ ، من أولئك المدعوين بيمينه إظهارًا لخطر الكتاب ، وتشريفًا لصاحبه ، وتبشيرًا له من أول الأمر ، { فأولئك يقرؤون كتابهم } المؤتى لهم . والإشارة إلى " مَن " : باعتبار معناها لأنها واقعة على الجمع إيذانًا بأنهم حزب مجتمعون على شأنٍ جليل ، وإشعارًا بأن قراءتهم لكتبهم يكون على وجه الاجتماع ، لا على وجه الانفراد كما في حال الدنيا . وأتى بإشارة البعيد إشعارًا برفع درجاتهم ، أي : أولئك المختصون بتلك الكرامة ، التي يُشْعِرُ بها الإيتاء المذكور ، يقرأون كتابهم { ولا يُظلمون فتيلاً } ولا ينقصون من أجور أعمالهم المرسومة في صحيفتهم أدنى شيء ، فإن الفتيل - وهو : قشر النواة - مَثلٌ في القلة والحقارة . ثم ذكر أهل الأخذ بالشمال فقال : { ومَن كان في هذه } الدنيا ، التي فَعَل بهم ما فعل من فنون التكريم والتفضيل ، { أعمى } فاقد البصيرة ، لا يهتدي إلى رشده ، ولا يعرف ما أوليناه من نعمة التكرمة والتفضيل ، فضلاً عن شكرها والقيام بحقوقها ، ولا يستعمل ما أودعنا فيه من العقل والقوى ، فيما خلق له من العلوم والمعارف ، { فهو في الآخرة أعمى } كذلك ، لا يهتدي إلى ما ينجيه مما يرديه لأن النجاة من العذاب والتنعم بأنواع النعم الأخروية مرتب على العمل في الدنيا ، ومعرفة الحق ، ومن عمي عنه في الدنيا فهو في الآخرة أشد عمى عما ينجيه ، { وأضلُّ سبيلاً } عنه لزوال الاستعداد الممكن لسلوك طريق النجاة . وهذا بعينه هو الذي أخذ كتابه بشماله ، بدلالة ما سبق من القبيل المقابل ، ولعل العدول عن التصريح به إلى ذكره بهذا العنوان للإشعار بالعلة الموجبة له ، فإنَّ العمى عن الحق والضلال هو السبب في الأخذ بالشمال ، وهذا كقوله في الواقعة : { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ } [ الواقِعَة : 92 ] ، بعد قوله : { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } [ الواقِعَة : 90 ] . والله تعالى أعلم . الإشارة : يدعو الحق تعالى ، يوم القيامة ، الأمم إلى الحساب بأنبيائها ورسلها ، ثم يدعوهم ، ثانيًا ، للكرامة بأشياخها وأئمتها التي كانت تدعوهم إلى الحق على الهَدْي المحمدي . فيقال : يا أصحاب فلان ، ويا أصحاب فلان ، اذهبوا إلى الجنة ، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون . وهذا في حق أهل الحق والتحقيق ، الدالين على سلوك الشريعة ، والتمسك بأنوار الحقيقة ذوقًا وكشفًا ، فكل من تبعهم وسلك منهاجهم ، كان من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، وهم : أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . وأما من لم يكن من حزبهم ، ولم يدخل تحت تربيتهم ، فإن استعمل عقله وقُواه فيما يُنجيه يوم القيامة كان من الذين يُؤتون كتابهم بيمينهم ، ولا يظلمون فتيلاً . ومن أهمل عقله واستعمل قواه في البطالة والهوى ، كان من القبيل الذي عاش في الدنيا أعمى ، ويكون في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً ، والعياذ بالله . ثمَّ ذكر نوعاً من هذا القبيل الذي أعمى الله بصيرته