Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 18, Ayat: 107-110)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحقّ جلّ جلاله : { إِن الذين آمنوا } بآيات ربهم ولقائه ، { وعملوا } الأعمال { الصالحات كانت لهم } فيما سبق من حكم الله تعالى ووعده ، { جنَّاتُ الفردوسِ } ، وهي أعلى الجنان . وعن كعب : أنه ليس في الجنة أعلى من جنة الفردوس ، وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ، أي : أهل الوعظ والتذكير من العارفين . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " في الجَنَّةِ مِائَةُ دَرَجَةٍ ، ما بَيْنَ كُل دَرَجتين كما بَيْنَ السَّمَاءِ والأرْض ، أَعلاها الفِرْدَوس ، ومِنْها تَفَجَّرُ أنْهَارُ الجنَّةِ ، فَوْقَها عَرْشُ الرحمن ، فإذَا سَأَلْتُمُ اللهُ فَسَلُوهُ الفِرْدَوْسَ " وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم : " جنان الفردوس أربع : جنتان من فِضَّةٍ ، أبنيتهما وآنيتُهُما ، وجنَّتان من ذهب ، أبنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظُرُوا إلى ربهمْ إلا رِدَاءُ الكبْرياءِ على وَجْهِه " وقال قتادة : الفردوس : ربوة الجنة . وقال أبو أمامة : هي سرة الجنة . وقال مجاهد : الفردوس : البستان بالرومية . وقال الضحاك : هي الجنة الملتفة الأشجار . كانت لهم { نُزُلاً } أي : مقدمة لهم عند ورودهم عليه ، على حذف مضاف ، أي : كانت لهم ثمار جنة الفردوس نُزلاً ، أو جعلنا نفس الجنة نُزلاً ، مبالغةً في الإكرام ، وفيه إيذان بأن ما أعدَّ الله لهم على ما نطق به الوحي على لسان النبوة بقوله : " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خَطَرَ على قلب بشر " هو بمنزلة النُزُل بالنسبة إلى الضيافة وما بعدها ، وإن جُعِلَ النُزل بمعنى المنزل فظاهر . { خالدين فيَبْغُون عنها حِوَلاً } أي : لا يطلبون تحولاً عنها إذ لا يتصور أن يكون شيء أعز عندهم ، وأرفع منها ، حتى تنزع إليه أنفسهم ، أو تطمح نحوه أبصارهم . ونعيمهم مجدد بتجدد أنفاسهم ، لا نفادَ له ولا نهاية لأنه مكون بكلمة " كن " ، وهي لا تتناهى . قال تعالى : { قل لو كان البحرُ } أي : جنس البحر { مِدَادًا } ، وهو ما تمد به الدواة من الحِبْر ، { لِكلماتِ ربي } وهي ما يقوله سبحانه لأهل الجنة ، من اللطف والإكرام ، مما لا تكيفُه الأوهام ، ولا تحيط به الأفكار ، فلو كانت البحار مدادًا والأشجار أقلامًا لنفدت ، ولم يبق منها شيء ، { قبل أن تنفد كلماتُ ربّي } لأن البحار متناهية ، وكلمات الله غير متناهية . ثم أكّده بقوله : { ولو جئنا بمثله مدَدًا } أي : لنفد البحر من غير نفاد كلماته تعالى ، هذا لو لم يجيء بمثله مددًا ، بل ولو جئنا بمثله { مددًا } عونًا وزيادة لأن ما دخل عالم التكوين كله متناهٍ . { قل } لهم : { إِنما أنا بشرٌ مثلكم } يتناهى كلامي ، وينقضي أجلي ، وإنما خُصصت عنكم بالوحي والرسالة { يُوحى إِليَّ } من تلك الكلمات : { أنما إِلهكم إِله واحد } لا شريك له في الخلق ، ولا في سائر أحكام الألوهية ، { فمن كان يرجو لقاء ربه } : يتوقعه وينتظره ، أو يخافه ، فالرجاء : توقع وصول الخير في المستقبل ، فمن جعل الرجاء على بابه ، فالمعنى : يرجو حسن لقاء ربه وأن يلقاه لقاء رضى وقبول . ومن حمله على معنى الخوف ، فالمعنى : يخاف سوء لقائه . قال القشيري : حَمْلُه على ظاهره أَوْلى لأن المؤمنين قاطبةً يرجون لقاءَ الله ، فالعارفون بالله يرجون لقاءه والنظر إليه والمؤمنون يرجون لقاءه وكرامته بالنعيم المقيم . هـ . بالمعنى . والتعبير بالمضارع في { يرجو } للدلالة على أن اللائق بحال المؤمنين : الاستمرار والاستدامة على رجاء اللقاء ، أي : فمن استمر على رجاء لقاء كرامة الله ورضوانه { فليعملْ } لتحصيل تلك الطلبة العزيزة { عملاً صالحًا } ، وهو الذي توفرت شروط صحته وقبوله ، ومدارها على الإتقان ظاهرًا ، والإخلاص باطنًا . وقال سهل : العمل الصالح : المقيد بالسُنَّة ، وقيل : هو اعتقاد جواز الرؤية وانتظار وقتها . { ولا يُشرك بعبادةِ ربه أحدًا } إشراكًا جليًا ، كما فعل الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا حيث كفروا بآيات ربهم ولقائه ، أو إشراكًا خفيًا ، كما يفعله أهل الرياء ، ومن يطلب به عوضًا أو ثناءً حسنًا . قال شهر بنُ حَوشب : جاء رجل إلى عبادة بن الصامت ، فقال : أرأيت رجلاً يُصلي يبتغي وجه الله ، ويحب أن يُحمد عليه ، ويتصدق يبتغي وجه الله ويُحب أن يُحمد عليه ، ويحج كذلك ؟ قال عبادة : ليس له شيء ، إن الله تعالى يقول : " أنا خيرُ شريك ، فمن كان له شريك فهو له " ورُوي أن جُنْدبَ بْنَ زُهَيْرٍ قَال لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم : إِنِّي لأعْمَلُ العَمَلَ للهِ تَعَالى ، فإذا اطُّلِعَ عَلَيْهِ سرَّني ، فقال له عليه الصلاة والسلام : " لَكَ أَجْرَان : أجْرُ السِّرِّ ، وأَجْرُ العَلاَنِيَةِ " وذلك إذا قصد أن يُقْتَدَى به ، وكان مُخْلصًا في عمله . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اتقوا الشرك الأصغر ، قالوا : وما الشرك الأصغر ؟ قال : الرياء " . وقال صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية - : " إن أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي ، وإياكم وشرك السرائر ، فإنَّ الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء ، فشق ذلك على القوم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا أدلكم على ما يذهب الله عنكم صغير الشرك وكبيره ؟ قالوا : بلى ، قال : قولوا : " اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم ، وأستغفرك من كل ما لا أعلم " . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَنْ قَرَأ آخرَ سورة الكَهف - يعني : { إن الذين آمنوا } إلى آخره - كَانَتْ لَهُ نُورًا من قَرْنِهِ إلى قَدَمِهِ ، وَمَنْ قَرَأَهَا كُلَّها كانَتْ له نُورًا من الأرْضِ إلى السَّمَاءِ " وعنه صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأَ عِنْدَ مَضْجِعِهِ : { قل إنما أنا بشر مثلكم } الخ ، كَانَ لَهُ مِنْ مَضْجَعِهِ نُورًا يَتَلألأ إلى مَكّةَ ، حَشْوُ ذلِكَ النُّور مَلائِكَةٌ يُصَلُون حَتَّى يَقُومَ ، وإنْ كَانَ بِمَكَةَ كانَ لَهُ نُورًا إلى البيتِ المَعْمُور " قلت : ومما جُرِّب أن من قرأ هذه الآية ، { إن الذين آمنوا } الخ ، ونوى أن يقوم في أي ساعة شاء ، فإن الله تعالى يُوقظه بقدرته . وانظر الثعلبي . الإشارة : إن الذين آمنوا إيمان الخصوص ، وعملوا عمل الخصوص - وهو العمل الذي يقرب إلى الحضرة - كانت لهم جنة المعارف نُزلاً ، خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً لأنَّ من تمكن من المعرفة لا يُعزل عنها ، بفضل الله وكرمه ، كما قال القائل : @ مُذْ تَجَمَّعْتْ مَا خَشيتُ افْتِراقًا فأَنّا اليَوْمَ وَاصلٌ مَجْمُوعُ @@ ثم يترقون في معاريج التوحيد ، وأسرار التفريد ، أبدًا سرمدًا ، لا نهاية لأن ترقيتهم بكلمة القدرة الأزلية ، وهي كلمة التكوين ، التي لا تنفد { قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي … } الآية . هذا مع كون وصف البشرية لا يزول عنهم ، فلا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية . قل : إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إليّ وحي إلهام ، ويلقى في رُوعي أنما إلهكم إله واحد ، لا ثاني له في ذاته ولا في أفعاله ، فمن كان يرجو لقاء ربه في الدنيا لقاء الشهود والعيان ، ولقاء الوصول إلى صريح العرفان فليعمل عملاً صالحًا ، الذي لا حظ فيه للنفس عاجلاً ولا آجلاً ، ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا ، فلا يقصد بعبادته إلا تعظيم الربوبية ، والقيام بوظائف العبودية ، والله تعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .