Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 13-16)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { بالحق } : إما صفة لمصدر محذوف ، أو حال من ضمير " نَقُصُّ " ، أو من " نبأهم " ، أو صفة له ، على رأي من يرى حذف الموصول مع بعض صلته ، أي : نَقُصُّ قصصًا ملتبسًا بالحق ، أو نقصه متلبسين بالحق ، أو نقص نبأهم ملتبسًا بالحق ، أو نبأهم الذي هو ملتبس بالحق . و { إذ قاموا } : ظرف لربطنا ، { وشططًا } : صفة لمحذوف ، أي : قولاً شططًا ، أي : ذا شطط ، وُصِف به للمبالغة . و { هؤلاء } : مبتدأ ، وفي اسم الإشارة تحقير لهم ، و { قومنا } : عَطْفُ بيانٍ له . و { اتخذوا } : خبر ، و { ما يعبدون } : موصول ، عطف على الضمير المنصوب ، أو مصدرية ، أي : وإذ اعتزلتموهم ومَعْبُودِيهِمْ إلا الله ، أو عبادتهم إلا عبادة الله ، وعلى التقديرين : فالاستثناء متصل على تقدير أنهم كانوا مشركين يعبدون الله والأصنام . ومنقطع على تقدير تمحضهم بعبادة الأوثان ، ويجوز أن تكون { ما } نافية على أنه إخبار من الله - تعالى - عن الفتية بالتوحيد ، معترض بين " إذ " وجوابه العامل فيها . يقول الحقّ جلّ جلاله : { نحن نقصُّ عليك نبأَهم } ، والنبأ : الخبر الذي له شأن وخطر ، قصصًا ملتبسًا { بالحق } : بالصدق الذي لا يطرقه كذب ولا ريبة . وخبرهم ، حسبما ذكر محمد بن إسحاق : أنه قد مرج أهل الإنجيل ، وظهرت فيهم الخطايا ، وطغت ملوكهم ، فعبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت ، وكان مَنْ بَالَغَ في ذلك وعتا عتوًا كبيرًا : " دقيانوس " فإنه غلا فيه غلوًا كبيرًا ، فجاس خلال الديار والبلاد بالعبث والفساد ، وقتل من خالفه ممن تمسك بدين المسيح ، وكان يتتبع الناس فيُخيرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان ، فمن رغب في الحياة الدنيا الدنية : تبعه وصنع ما يصنع ، ومن آثر عليها الحياة الأبدية : قتله وقطع آرابه ، وعلّقها بسور المدينة وأبوابها . فلما رأى الفتيةُ ذلك ، وكانوا عظماء مدينتهم ، وكانوا بني الملوك ، قاموا فتضرعوا إلى الله تعالى ، واشتغلوا بالصلاة والدعاء ، فبينما هم كذلك إذ دخل عليهم أعوان الجبار ، فأحضروهم بين يديه ، فقال لهم ما قال ، فخيَّرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان ، فقالوا : إن لنا إلهًا ملأ السماواتِ والأرض عظمةً وجبروتًا ، لن ندعو من دونه أحدًا ، ولن نُقر بما تدعونا إليه أبدًا ، فاقض ما أنت قاض ، فأمر بنزع ما عليهم من الثياب الفاخرة ، وأخرجهم من عنده . زاد في رواية : وضمنهم أهلهم ، وخرج إلى مدينة نينوى لبعض شأنه ، وأمهلهم إلى رجوعه ليتأملوا في أمرهم ، وإلاَّ فعل بهم ما فعل بسائر المسلمين . فأجمعت الفتيةُ على الفرار والالتجاء إلى الكهف الحصين ، فأخذ كلٍّ منهم من بيت أبيه شيئًا ، فتصدقوا ببعضه ، وتزودوا بالباقي ، فأَوَوْا إلى الكهف . وفي رواية : أنهم مروا بكلب فتبعهم ، على ما يأتي في شأنه ، فجعلوا يُصَلُّون في ذلك الكهف آناء الليل وأطراف النهار ، ويبتهلون إلى الله - سبحانه - بالأنين والجُؤَار ، ففوضوا أمر نفقتهم إلى " يمليخا " ، فكان إذا أصبح يضع عنه ثيابه الحسان ، ويلبس ثياب المساكين ، ويدخل المدينة ويشتري ما يهمهم ، ويتحسس ما فيها من الأخبار ، ويعود إلى أصحابه ، فلبثوا على ذلك إلى أن قَدِم الجبارُ المدينةَ فطلبهم ، وأحضر آباءهم ، فاعتذروا بأنهم عَصَوْهم ونهبوا أموالهم ، وبذروها في الأسواق ، وفروا إلى الجبل . فلما رأى " يمليخا " ما رأى من الشر رجع إلى أصحابه وهو يبكي ، ومعه قليل من الزاد ، فأخبرهم بما شهد من الهول ، ففزعوا إلى الله - عزّ وجلّ - وخروا له سُجدًا ، ثم رفعوا رؤوسهم وجلسوا يتحدثون في أمرهم ، فبينما هم كذلك إذ ضرب الله على آذانهم فناموا ، ونفقتُهم عند رؤوسهم . فخرج " دقيانوس " في طلبهم بخيله ورَجله ، فوجدهم قد دخلوا الكهف ، فأمر بإخراجهم فلم يُطق أحدٌ منهم أن يَدخله ، فلما ضاق بهم ذرعًا ، قال قائل منهم : أليس لو كنتَ قدرتَ عليهم قتلتهم ؟ قال : بلى . قال : فابْنِ عليهم باب الكهف وَدَعْهم يموتوا جُوعًا وعَطَشًا ، ففعل فكان شأنهم ما قص الله تعالى ، إذ قال : { إِنهم فتيةٌ } ، استئناف بياني ، كأن سائلاً سأل عن حالهم ، فقال : إنهم فتية شبان كاملون في الفتوة { آمنوا بربهم } ، فيه التفات إلى ذكر الربوبية التي اقتضت تربيتهم وحفظهم ، { وزدناهم هُدىً } بأن ثبَّتناهم على ما كانوا عليه ، وأظهرنا لهم من مكنونات محاسننا ما آثروا به الفناء على البقاء . وفيه التفات إلى التكلم لزيادة الاعتناء بشأنهم ، { وربطنا على قلوبهم } أي : قويناهم ، حتى اقتحموا مضايق الصبر على هجر الأهل والأوطان ، والنعيم والإخوان ، واجترأوا على الصدع بالحق من غير خوف ولا حذر ، والرد على دقيانوس الجبار { إِذْ قاموا } أي : انتصبوا لإظهار شعار الدين ، قال مجاهد : خرجوا من المدينة فاجتمعوا على غير ميعاد . فقال أكبرهم : إني لأجد في نفسي شيئًا ، إن ربي هو رب السماوات والأرض ، فقالوا : نحن أيضًا كذلك ، فقاموا جميعًا { فقالوا ربُنا ربُّ السماواتِ والأرضِ } ، وعزموا على التصميم بذلك . وقيل : قاموا بين يدي الجبار من غير مبالاة به ، حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام ، فحينئذ يكون ما سيأتي من قوله تعالى : { هؤلاء … } الخ : منقطعًا صادرًا عنهم ، بعد خروجهم من عنده . ثم قالوا : { لن ندعوَ من دونه إِلهًا } ، لا استقلالاً ولا اشتراكًا ، ولم يقولوا : ربًا للتصميم على الرد على المخالفين ، حيث كانوا يُسمون أصنامهم آلهة ، وللإشعار بأن مدار العبودية على وصف الألوهية . { لقد قُلنا إِذًا شَطَطًا } : قولاً ذا شطط ، وهو الجور والتعدي ، أي : لقد جُرنا وأفرطنا في الكفر ، وقلنا قولاً خارجًا عن حد المعقول ، إنْ دعونا إلهًا غير الله جَزْمًا . { هؤلاء قومُنَا } قد { اتخذوا من دونه آلهةً } ، فيه معنى الإنكار ، { لولا } : هلا { يأتونَ عليهم } : على ألوهيتهم { بسلطان بَيِّن } : بحجة ظاهرة ، { فمن أظلمُ } أي : لا أحد أظلم { ممن افترى على الله كذبًا } بنسبة الشريك إليه فإنه أظلم من كل ظالم . { وإذ اعتزلتموهم } أي : فارقتموهم { و } فارقتم { ما يعبدون إِلا الله فَأْووا إِلى الكهف } : فالتجئوا إليه ، والمعنى : وإذا اعتزلتموهم اعتزالاً اعتقاديًا فاعتزلوهم اعتزالاً جسمانيًا ، { ينشرْ لكم ربٌُّكم } : يبسط لكم ويوسع عليكم { من رحمته } في الدارين ، { ويهيئْ لكم من أمركم } الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين ، { مِرْفَقًا } : ما ترتفقون به ، أي : تنتفعون ، وجزمهم بذلك لنصوع يقينهم ، وقوة وثوقهم بفضل الله . والله تعالى أعلم . الإشارة : قد وصف الله - تعالى - أهلَ الكهف بخمسة أوصاف هي من شعار الصوفية الإيمان ، الذي هو الأساس ، وزيادة الاهتداء بتربية الإيقان إلى الوصول إلى صريح العرفان ، وربط القلب في حضرة الرب ، والقيام في إظهار الحق أو لداعي الوجد ، والصدع بالحق من غير مبالاة بأحد من الخلق . وقال الورتجبي في قوله تعالى : { وزدناهم هُدىً } : أي : زدناهم نورًا من جمالي ، فاهتدوا به طرق معارف ذاتي وصفاتي ، وذلك النور لهم على مزيد الوضوح إلى الأبد لأن نوري لا نهاية له . وقال عند قوله : { إِذ قاموا } : قد استدل بهذه الآية بعضُ المشايخ على حركة الواجدين في وقت السماع والذكر لأن القلوب إذا كانت مربوطة بالملكوت ومحل القدس حرَّكها أنواعُ الأذكار وما يَرِد عليها من فنون السماع . والأصل قوله : { وربطنا على قلوبهم إِذ قاموا } ، نعم هذا المعنى إذا كان القيام قيامًا بالصورة ، أي : الحسية في القيام الحسي ، وإذا كان القيام من جهة الحفظ والرعاية ، والربط من جهة النقل من محل التلوين إلى محل التمكين ، فالاستدلال بها في السكون في الوجد أحسن ، إذا كان الربط بمعنى التسكين والقيام بمعنى الاستقامة . هـ . قلت : الحاصل : أنا إذا حملنا القيام على الحسي ففيه دليل لأهل البداية على القيام في الذكر والسماع . وإذا حملناه على القيام المعنوي ، وهو النهوض في الشيء ، أو الاستقامة عليه كان فيه دلالة لأهل النهاية على السكون وعدم التحرك ، وكأنه يشير إلى قضية الجنيد في بدايته ونهايته . والله تعالى أعلم . وقال ابن لب : قد اشتهر الخلاف بين العلماء في القيام لذكر الله - تعالى - وقد أباحته الصوفية ، وفعلته ودامت عليه ، واستفادوه من كتاب الله تعالى من قوله - عزّ وجلّ - في أصحاب الكهف : { إِذ قاموا فقالوا ربُّنا ربُّ السماوات والأرض } ، وإن كانت الآية لها محامل أخرى سوى هذا . هـ . قلت : وقوله تعالى : { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً } [ آل عمران : 191 ] : صريح في الجواز . وقال في القوت : وقد روينا أنه صلى الله عليه وسلم مرَّ برجل يظهر التأوه والوجد ، فقال مَنْ كان معه : أتراه يا رسولَ الله مُرائيًا ؟ فقال : " لا ، بل أوّاه منيب " ، وقال لآخر : أظهر صوته بالآية : " أِسْمِع الله عزَّ وجّل ولا تُسَمِّع " ، فأنكر عليه بما شهد فيه ، ولم ينكر على أبي موسى قوله : لو علمتُ أنك تَسمع لحبَّرته لك تحبيرًا لأنه ذو نية في الخير وحسن قصد به ، ولذا كل من كان له حسن قصد ، ونية خير ، في إظهار عمل ، فليس من السمعة والرياء في شيء لتجرده من الآفة الدنيوية ، وهي الطمع والمدح . هـ . ثمَّ ذكر حالهم في الكهف فقال : { وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ … }