Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 18, Ayat: 1-5)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { قَيّمًا } : حال من الكتاب ، والعامل فيه : " أنزل " ، ومنعه الزمخشري للفصل بين الحال وذي الحال ، واختار أن العامل فيه مضمر ، تقديره : جعله قيّمًا ، و " لينذر " : يتعلق بأنزل ، أو بقيّمًا . والفاعل : ضمير الكتاب ، أو النبي صلى الله عليه وسلم ، و " بأسًا " : مفعول ثان ، وحذف الأول ، أي : لينذر الناس بأسًا ، كما حذف الثاني من قوله : { ويُنذر الذين قالوا … } الخ لدلالة هذا عليه ، و { مِن عِلْم } : مبتدأ مجرور بحرف زائد ، أو فاعل بالمجرور لاعتماده على النفي ، و " كلمة " : تمييز . يقول الحقّ جلّ جلاله : { الحمدُ لله } أي : الثناء الجميل حاصل لله ، والمراد : الإعلام بذلك للإيمان به ، أو الثناء على نفسه ، أو هما معًا . ثم ذكر وجه استحقاقه له ، فقال : { الذي أَنزل على عبده الكتابَ } أي : الكتاب الكامل المعروف بذلك من بين سائر الكتب ، الحقيق باختصاص اسم الكتاب ، وهو جميع القرآن . رتَّب استحقاق الحمد على إنزاله تنبيهًا على أنه أعظم نعمائه ، وذلك لأنه الهادي إلى ما فيه كمال العباد ، والداعي إلى ما به ينتظم صلاح المعاش والمعاد . وفي التعبير عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالعبد ، مضافًا إلى ضمير الجلالة تنبيه على بلوغه صلى الله عليه وسلم إلى معاريج العبادة وكمال العبودية أقصى غاية الكمال ، حيث كان فانيًا عن حظوظه ، قائمًا بحقوقه ، خالصًا في عبوديته لربه . { ولم يجعلْ له } أي : للكتاب { عِوَجًا } شيئًا من العوج ، باختلافٍ في اللفظ ، وتناقض في المعنى ، وانحراف في الدعوة . قال القشيري : صانه عن التناقض والتعارض ، فهو كتابٌ عزيزٌ من ربِّ عزيز ، ينزل على عَبْدٍ عزيز . قَيّمًا : مستقيمًا متناهيًا في الاستقامة ، معتدلاً لا إفراط فيه ولا تفريط ، فهو تأكيد لما دل عليه نفي العوج ، مع إفادته كون ذلك من صفاته الذاتية ، حسبما تُنبئ عنه الصيغة . أو قَيّمًا بالمصالح الدينية والدنيوية للعباد ، على ما ينبئ عنه ما بعده من الإنذار والتبشير ، فيكون وصفًا له بالتكميل ، بعد وصفه بالكمال ، أو : قَيّمًا على ما قبله من الكتب السماوية ، وشاهدًا بصحتها ومهيمنًا عليها . { ليُنذر } : ليُخوّف اللهُ تعالى به ، أو الكتاب ، والأول أوْلى لتناسب المعطوفين بعده ، أي : أنزل الكتاب لينذر بما فيه الذين كفروا { بأسًا } : عذابًا { شديداً من لدنه } أي : صادرًا من عنده ، نازلاً من قِبَله ، في مقابلة كفرهم وتكذيبهم . { ويُبشِّر } بالتشديد والتخفيف ، { المؤمنين } : المصدقين به ، { الذين يعملون } أي : العُمال { الصالحاتِ } التي تَنْبَثُّ في تضاعيفه { أنَّ لهم } أي : بأن لهم في مقابلة إيمانهم وأعمالهم { أجرًا حسنًا } ، هو الجنة وما فيها من المثوبات الحسنى ، { ماكثين فيه } أي : في ذلك الأجر { أبدًا } على سبيل الخلود . والتعبير بالمضارع في الصلة - أعني : الذين يعملون - للإشعار بتجدد الأعمال الصالحات واستمرارها ، وإجراء الموصول على الموصوف بالإيمان إيماءً بأن مدار قبول الأعمال هو الإيمان . وتقديم الإنذار على التبشير لإظهار كمال العناية بزجر الكفار عما هم عليه ، مع مراعاة تقديم التخلية على التحلية . وتكرير الإنذار بقوله تعالى : { ويُنذرَ الذين قالوا اتخذ اللهُ ولدًا } : متعلق بفرقة خاصة ، ممن عمَّهُ الإنذار السابق ، من مستحقي البأس الشديد للإيذان بكمال فظاعة حالهم ، لغاية شناعة كفرهم وضلالهم ، أي : وينذر ، من بين سائر الكفرة ، هؤلاء المتفوهين بمثل هذه القولة العظيمة ، وهم كفار العرب الذين قالوا : الملائكة بنات الله ، واليهود القائلون : عزير ابن الله ، والنصارى القائلون : المسيح ابن الله . { ما لهم به من عِلْمٍ } أي : ما لهم باتخاذه الولد شيء من علم أصلاً لضلالهم وإضلالهم ، { ولا لآبائهم } الذين قلدوهم ، فتاهوا جميعًا في تيه الجهالة والضلالة ، أو : ما لهم علم بما قالوا ، أصواب أم خطأ ، بل إنما قالوه رميًا بقولٍ عن عمى وجهالة ، من غير فكر ولا روية ، كقوله تعالى : { وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ الأنعَام : 100 ] . أو : ما لهم علم بحقيقة ما قالوا ، وبعِظَم رتبته في الشناعة ، كقوله تعالى : { وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ ٱلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } [ مريَم : 88 - 90 ] ، وهو الأنسب لقوله : { كَبُرتْ كلمةٌ } أي : عظمت مقالتهم هذه في الكفر والافتراء لما فيها من نسبته سبحانه إلى ما لا يكاد يليق بجناب كبريائه لما فيه من التشبيه والتشريك ، وإيهام احتياجه تعالى إلى ولد يُعينه ويخلفه . فما أقبحها مقالة { تخرج من أفواههم } أي : يتفوهون بها من غير حقيقة ولا تحقيق لمعناها ، { إن يقولون إِلا كذبًا } : ما يقولون في ذلك إلا قولاً كذبًا ، لا يكاد يدخل فيه إمكان الصدق أصلاً . الإشارة : من كملت عبوديته لله ، وصار حُرًّا مما سواه ، بحيث تحرر من رق الأكوان ، وأفضى إلى مقام الشهود والعيان ، أنزل الله على قلبه علم التحقيق ، وسلك به منهاج أهل التوفيق ، منهاجًا قيمًا ، لا إفراط فيه ولا تفريط ، محفوظًا في باطنه من الزيغ والإلحاد ، وفي ظاهره من الفساد والعناد ، قد تولى الله أمره وأخذه عنه ، فهو على بينة من ربه فيما يأخذ ويذر . فإن أَذِنَ له في التذكير وقع في مسامع الخلق عبارتُه ، وجليت إليهم إشارته ، فبَشَّر وأنذر ، ورغّب وحذّر ، يُبشر أهل التوحيد والتنزيه بنعيم الجنان ، وبالنظر إلى وجه الرحمن ، ويُنذر أهل الشرك بعذاب النيران ، وبالذل والهوان ، نعوذ بالله من موارد الفتن . ولما كانت قريش تتفوه بشيء من هذه الكلمات التي شنع الله على من تفوه بها