Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 6-8)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { أسفًا } : مفعول من أجله لباخع ، أو حال ، أي : متأسفًا ، وجواب " إن " : محذوف ، أي : إن لم يؤمنوا فعلك باخع نفسك . يقول الحقّ جلّ جلاله : { فلعلك } يا محمد { باخعٌ } : مهلك { نفسَك } وقاتلها بالغم والأسف على تخلف قومك عن الإيمان وفراقهم عنك ، { على آثارهم } إذا تولوا عنك ، عندما تدعوهم إلى الله . شبهه ، لأجل ما تداخله من الوجد على توليتهم ، بمن فارقته أعزته ، وهو يتحسر على آثارهم ، ويبخع نفسه وجدًا عليهم . { إِن لم يُؤمنوا بهذا الحديث } أي : القرآن الذي عبّر عنه في صدر السورة بالكتاب ، صدر ذلك منك { أسفًا } أي : بفرط الحزن والتأسف عليهم . ثم علّل وجه إدبارهم عن الإيمان ، وهو اغترارهم بزهرة الدنيا ، فقال : { إِنا جعلنا ما على الأرض } من الأشجار والأزهار والثمار ، وما اشتملت عليه من المعادن ، وأنواع الملابس والمطاعم ، والمراكب والمناكح ، { زينةً لها } أي : مبهجة لها ، يستمتع بها الناظرون ، وينتفعون بها مأكلاً وملبسًا ، ونظرًا واعتبارًا ، حتى إن الحيّات والعقارب من حيث تذكيرها بعذاب الآخرة ، من قبيل المنافع ، بل كل حادث داخل تحت الزينة من حيثُ دلالته على الصانع ، وكذلك الأزواج والأولاد ، بل هم من أعظم زينتها ، داخلون تحت الابتلاء . جعلنا ذلك { لنبلوهم } : لنختبرهم ، حتى يظهر ذلك للعيان ، { أيُّهم أحسنُ عملاً } ، أيهم أزهد فيها ، وأقبلهم على الله بالعمل الصالح إذ لا عمل أحسن من الزهد في الدنيا إذ هو سبب للتفرغ لأنواع العبادة ، بدنية وقلبية . قال أبو السعود : وحسن العمل : الزهد فيها ، وعدم الاكتراث بها ، والقناعة باليسير منها ، وصرفها على ما ينبغي ، والتأمل في شأنها ، وجعلها ذريعة إلى معرفة خالقها ، والتمتع بها حسبما أذن الشرع ، وأداء حقوقها ، والشكر على نعمها ، لا جعْلها وسيلة إلى الشهوات ، والأغراض الفاسدة ، كما يفعله الكفرة وأهل الأهواء … انظر بقية كلامه . { وإِنا لجاعلون ما عليها } عند تناهي الدنيا { صعيدًا جُرُزًا } أي : ترابًا يابسًا ، لا نبات فيه ، بعدما كان يَتَعجب من بهجته النظارُ ، ويتشرف بمشاهدته الأبصار ، فلا يغتر بما يذهب ويفنى إلا من لا عقل له ، فلا تستغرب إدبارهم ، إذ لا عقل لهم . ويحتمل أن يكون تسليةً للنبي صلى الله عليه وسلم من حيث إنه أرشده إلى شهود تدبير الحق ، فيسلو ، بذلك عن إعراضهم لغيبته في المصور المدبر عن الصور ، وعن الزينة في المُزَيِّن فالكون مظهر الصفات ومرآتها ، ويغيب في الذات - التي هي معدنها - بإفناء الظاهر ، وإفناء الأفعال ، كما نبّه عليه بقوله : { وإِنا لجاعلون … } الخ . الإشارة : الخصوصية - من حيث هي - لها بداية ونهاية ، فمن شأن أهل بدايتها : الحرص على الخير لهم ولعباد الله ، فيتمنون أن الناس كلهم خصوص أو صالحون ، فإذا رأوا الناس أعرضوا عنها تأسفوا عليهم ، وإذا أقبلوا عليهم فرحوا من أجلهم ، زيادة في الهداية لعباد الله ، فإذا تمكنوا منها ورسخت أقدامهم فيها ، وحصل لهم الفناء الأكبر ، لم يحرصوا على شيء ، ولم يتأسفوا من فوات شيء ، لهم ولغيرهم . وقد يتوجه العتاب لهم على الحرص في بدايتهم تكميلاً لهم ، وترقية إلى المقام الأكمل . وقوله تعالى : { إنا جعلنا ما على الأرض … } الخ ، هو حكمة تخلف الناس عن الخصوصية ، حتى يتميز الطالب لها من المعرض عنها ، فمن أقبل على زينة الدنيا وزهرتها ، فاتته الخصوصية ، وبقي من عوام الناس ، ومن أعرض عنها وعن بهجتها ، وتوجه بقلبه إلى الله ، كان من المخصوصين بها ، المقربين عند الله . وهذا هو أحسن الأعمال التي اختبر الله به عباده بقوله : { لنبلوهم أيهم أحسن عملاً } ، وفي الحديث : " الدنيا مال مَنْ لاَ مَالَ لَه ، لَهَا يَجْمَعُ مَنْ لاَ عَقْلَ لَه . وعليها يُعَادِي مَنْ لاَ عِلْمَ عِنْدَه " وفي الزهد والترغيب أحاديث كثيرة مفردة بالتأليف ، وبالله التوفيق . ثمَّ شرع في قصة أهل الكهف المقصودة بالذات