Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 18, Ayat: 22-26)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { إلا أن يشاء } : استثناء مفرغ من النهي ، أي : لا تقولن في حال من الأحوال ، إلا حال ملابسةٍ بمشيئته تعالى على الوجه المعتاد ، وهو أن تقول : إن شاء الله ، أو : في وقت من الأوقات ، إلا وقت إن شاء الله . يقول الحقّ جلّ جلاله : { فلا تُمَارِ } أي : لا تجادل { فيهم } في شأن أهل الكهف { إِلا مِراءً ظاهرًا } قدر ما تعرض له الوحي من وصفهم ، من غير زيادة عليه ، مع تفويض العلم إلى الله ، فلا تُصرح بجهلهم ، ولا تفضح خطأهم ، فإنه يُخل بمكارم الأخلاق ، { ولا تَسْتَفْتِ فيهم } : في شأنهم { منهم } من الخائضين { أحدًا } فإن فيما أوحي إليك لمندوحة عن ذلك ، مع أنهم لا علم لهم بذلك . { ولا تقولنّ لشيء } أي : لأجل شيء تعزم عليه : { إِني فاعلٌ ذلك } الشيء { غدًا } : فيما يستقبل من الزمان مطلقًا ، فيصدق بالغد وما بعده لأنه نزل حين قالت اليهود لقريش : سلوه عن الروح ، وعن أصحاب الكهف ، وعن ذي القرنين . فسألوه صلى الله عليه وسلم فقال : " غدًا أخبركم " ، ولم يستثن ، فأبطأ عليه الوحي ، حتى شقَّ عليه ، وكذبته قريشٌ ، ثم نزلت السورة بعد أربعة عشر يومًا ، أو قريبًا منها ، على ما ذكره أهل السِّيَر ، أي : لا تَقُلْ إني فاعل شيئًا في حال من الأحوال إلا متلبسًا بمشيئته على الوجه المعتاد ، وهو أن تقول : إن شاء الله ، أو في وقت من الأوقات ، إن شاء الله أن تقوله ، بمعنى : أن يأذن لك فيه ، فإن النسيان بمشيئته تعالى . { واذكر ربكَ } بقولك : إلا أن يشاء الله مستدركًا له ، { إِذا نسيتَ } : إذا فرط منك نسيان ثم ذكرته . وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه : ولو بعد سنة ما لم يحنث . ولذلك جوَّز تأخير الاستثناء . وعامة الفقهاء على خلافه ، إذ لو صح ذلك لما تقرر طلاق ولا عتاق ، ولم يعلم صدق ولا كذب ، وقال القرطبي : هذا في تدارك الترك والتخلص من الإثم ، وأما الاستثناء المغير للحكم فلا يكون إلا متصلاً به ، ويجوز أن يكون المعنى : واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت الاستثناء مبالغة في الحث عليه ، أو : اذكر ربك إذا اعتراك نسيان لتستدرك ما فات ، وحُمل على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها . وسيأتي في الإشارة بقية الكلام عليها . { وقل عسى أن يَهْديَنِ ربي } : يوفقني { لأقربَ من هذا } أي : لنبأ أقرب وأظهر من نبأ أصحاب الكهف ، من الآيات والدلائل الدالة على نبوتي ، { رَشَدًا } أي : إرشادًا للناس ودلالة على ذلك . وقد فعل عزّ وجلّ ذلك حيث آتاه من البينات ما هو أعظم وأبين لقصص الأنبياء ، المتباعدة أيامهم ، والإخبار بالغيوب والحوادث النازلة في الأعمار المستقبلة إلى قيام الساعة . أو : لأقرب رشدًا وأدنى خيرًا من المَنْسِي ، أي : عسى أن يدلني على ما هو أصلح لي من الذي نسيته إذ يجوز أن يكون نسيانه خيرًا له من ذكره إذ فيه إظهار قهريته تعالى ، وغناه عن خلقه ، وعدم مبالاته بإدبار من أدبر وإقبال من أقبل ، أو : الطريق الأقرب من هذا الذي هدى إليه أهل الكهف رشدًا وصوابًا ، وقد فعل ذلك حيث هداه إلى الدين القيِّم الذي أظهره على الأديان كلها ، ولو كره المشركون . { ولَبِثُوا في كهفهم } أحياءً ، مضروبًا على آذانهم ، { ثلاث مائةٍ سنينَ وازدادوا تسعًا } ، رُوي عن علي - كرم الله وجهه - أنه قال : عند أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية ، والله تعالى ذكر السنة القمرية ، والتفاوت بينهما في كل مائة ثلاثُ سنين ، فيكون ثلاث مائة سنة وتسع سنين . هـ . { قُلِ الله أعلم بما لَبِثُوا } أي : الزمان الذي لبثوا فيه . { له غيبُ السماوات والأرض } أي : ما غاب فيهما ، وخفي من أحوال أهلها ، { أبصِرْ به وأسمعْ } أي : ما أسمعه وما أبصره . دل بصيغة التعجب على أن سمعه تعالى وبصره خارج عما عليه إدراك المدركين لأنه تعالى لا يحجبه شيء ، ولا يحول دونه حائل ، ولا يتفاوت بالنسبة إليه اللطيف والكثيف ، والصغير والكبير ، والخفي والجلي . والتعجب في حقه تعالى مجاز لأنه إنما يكون مما خفي سببه ، ولأنه دهشة وروعة تلحق المتعجب عند معاينة ما لم يعتَدْه ، وهو تعالى منزَّه عن ذلك ، فيُؤَوَّل بأنه مبالغة في إحاطة سمعه وبصره بكل شيء ، كما تقدم . { ما لهم من دونه من وليٍّ } أي : ما لأهل السماوات والأرض من دونه تعالى من ولي يتولى أمورهم وينصرهم إلا هو سبحانه ، { ولا يُشرِكُ في حُكمِهِ } : في قضائه في علم الغيب { أحدًا } منهم ، ولا يجعل له فيه مدخلاً ، وقرئ بالخطاب لكل أحد ، أي : ولا تشرك أيها السامع في حكمه وتدبيره أحدًا من خلقه ، فإنه لا فعل له ولا تدبير . والله تعالى أعلم . الإشارة : قد تضمنت إشارة الآية خمس خصال من خصال الصوفية : الأولى : ترك المراء والجدال ، إلا ما كان على وجه المذاكرة والمناظرة في استخراج الحق أو تحقيقه ، من غير ملاججة ولا مخاصمة ، في سهولة وليونة وسلامة القلوب . الثانية : استفتاء القلوب فيما يعرض من الأمور قال صلى الله عليه وسلم " اسْتَفْتِ قَلْبَكَ ، وإنْ أفتاك المفْتونَ وأفتَوْك ، فالبر ما اطمأن القلب وسكن إليه ، والإثم ما حاك في الصدر وتردد " ، والمراد بالقلوب التي تُسْتَفْتَى . القلوب الصافية المنورة بذكر الله ، الزاهدة فيما سوى الله ، فإنها إذا كانت بهذه الصفة لا يتجلى فيها إلا الحق ، ولا تسكن إلا إلى الحق ، بخلاف القلوب المخوضة بحب الدنيا والهوى ، فلا تفتي إلا بما يوافق هواها . الثالثة : التفويض إلى مشيئة الله وتدبيره ، والرضا بما يبرز به القضاء ، بحيث لا يعقد على شيء ، ولا يجزم بفعل شيء ، إلا ملتبسًا بمشيئة الله ، فينظر ما يفعل الله ، فالعاقل إذا أصبح نظر ما يفعل الله به ، والجاهل إذا أصبح نظر ما يفعل بنفسه ، كما قال صاحب الحِكم . الرابعة : الاشتغال بالذكر والفكر ، حتى يغيب عما سوى المذكور قال تعالى : { واذكر ربك إذا نسيت } أي : إذا نسيت ما سواه ، حينئذ تكون ذاكرًا حقيقة ، فالذكر الحقيقي : هو الذي يغيب صاحبه عن شهود نفسه ورسمه وحسه ، حتى يكون الحق تعالى هو المتكلم على لسانه لشدة غيبته فيه ، وهذا أمر مشاهد لمن عثر على شيخ التربية والتزم صحبته . الخامسة : التماس الترقي والزيادة في الاهتداء واليقين ، فكل مقام يدركه ينبغي أن يطلب مقامًا أعلى منه ، ولا نهاية لعلمه تعالى ولا لعظمته ، { وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدًا } ، وبالله التوفيق . ثمَّ أمره بتلاوة كتابه الذي هو أصل كل رشد وصواب