Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 32-44)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { رجلين } : بدل من " مثلاً " ، وجملة { جعلنا … } بتمامها : بيان للتمثيل ، أو صفة لرجلين ، و { ما شاء الله } : خبر ، أي : هذا ما شاء الله ، أو الأمر ما شاء الله ، أو مبتدأ حُذف الخبر ، أي : الذي شاء الله كائن ، أو شرطية ، والجواب محذوف ، أيْ : أيّ شيء شاء الله كان ، و { هنالك } : ظرف مقدم ، و { الولاية } : مبتدأ ، والظرف : إشارة إلى الآخرة ، وهذا أحسن . يقول الحقّ جلّ جلاله : { واضربْ لهم } أي : للفريقين فريق المؤمنين والكافرين المتقدمين ، { مَّثَلاً } من حيث عصيان الكافر ، مع تقلبه في النعيم ، وطاعة المؤمن ، مع مكابدته مَشَاقَّ الفقر ، وما كان مآلهما ، لا من حيث ما ذكر من أن للكافر في الآخرة كذا وللمؤمن كذا ، أي : واضرب لهم حالي { رجُلَيْن } مقدرين أو محققين ، هما أخوان من بني إسرائيل ، أو شريكان : كافر ، واسمه قُطروس ، ومؤمن ، اسمه يهوذا ، اقتسما ثمانية آلاف دينار ، أو ورثَاها من أبيهما ، فاشترى الكافر بنصيبه ضياعًا وعقارًا ، وصرف المؤمن نصيبه إلى وجوه البر . رُوِيَ : أن الكافر اشترى أرضًا بألف دينار ، فقال صاحبه المؤمن : اللهم إن فلانًا اشترى أرضًا بألف ، وإني أشتري منك أرضًا في الجنة بألف ، فتصدق بألف دينار ، ثم إن صاحبه بنى دارًا بألف دينار ، فقال المؤمن : اللهم إن صاحبي بنى دارًا بألف ، وإني أشتري منك دارًا في الجنة بألف ، فتصدق بألف دينار ، ثم إن صاحبه تزوج امرأة بألف دينار ، فقال : اللهم ، إن فلانًا تزوج بألف دينار ، وإني أخطب منك من نساء الجنة بألف ، فتصدق بألف دينار ، ثم إن صاحبه اشترى خادمًا ومتاعًا بألف دينار ، فقال : اللهم إن فلاناً اشترى خادماً ومتاعاً بألف ، وإني أشتري منك خادماً ومتاعاً من الجنة بألف ، فتصدق بألف دينار ، ثم أصابته حاجة ، فقال : لعل صاحبي يُناولني معروفه ، فأتاه ، فقال : ما فعل مالك ؟ فأخبره قصته ، فقال : أو إنك لمن المصدقين بهذا ؟ والله لا أعطيك شيئًا ، فلما تُوفيا آل أمرهما إلى ما ذكر الله في سورة الصافات بقوله : { قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُصَدِّقِينَ } [ الصافات : 51 ، 52 ] الآية . وبيَّن حالهما في الدنيا بقوله : { جعلنا لأحدهما } وهو الكافر ، { جنتين } : بساتين { من أعنابٍ } : من كروم متنوعة ، { وحفَفناهما بنَخْلٍ } أي : جعلنا النخل محيطة بهما محفوظًا بها كرومهما ، { وجعلنا بينهما } : وسطهما { زرعًا } ليكون كل منهما جامعًا للأقوات والفواكه ، متواصل العمارة ، على الهيئة الرائقة ، والوضع الأنيق . { كلتا الجنتين آتت أُكُلَها } : ثمرها وبلغ مبلغًا صالحًا للأكل ، { ولم تَظْلِم منه شيئًا } أي : لم تنقص من أكلها شيئًا في كل سنة ، بخلاف سائر البساتين ، فإن الثمار غالبًا تكثر في عام وتقل في عام ، { وفجَّرْنا خِلالهما } : فيما بين كل من الجنتين { نَهَرًا } على حدةٍ ، وقرئ بالسكون . والنهر : الماء الكثير ، وكان لكل بستان نهر ليدوم شربها ويدوم بهاؤها . ولعل تأخير تفجير النهر عن ذكر إيتاء الأكل ، مع أن الترتيب الخارجي العكس للإيذان باستقلال كل من إيتاء الأكل وتفجير النهر في تكميل محاسن الجنتين ، كما في قصة البقرة ونحوها ، ولو عكس لأوهم أن المجموع خصلة واحدة بعضها مرتب على بعض . { وكان له ثمرٌ } أي : وكان لصاحب الجنتين أنواع من المال غير الجنتين ، من ثَمُرَ مالُه : إذا كثر . قال ابن عباس : الثمر : جميع المال من الذهب ، والفضة والحيوان ، وغير ذلك . وقال مجاهد : هو الذهب والفضة خاصة . { فقال لصاحبه } المؤمن ، أخيه أو شريكه ، { وهو يُحاوره } : يراجعه في الكلام ، من حَار إذا رجع ، وذلك أنه سأله عن ماله فيما أنفقه ، فقال : قدمتُه بين يدي ، لأقدم عليه ، فقال له : { أنا أكثرُ منك مالاً وأعزُ نفرًا } : حَشمًا وأعوانًا وأولادًا ذكورًا لأنهم الذين ينفرون معه . { ودخل جَنَّتَهُ } : بستانه الذي تقدم وصفه ، وإنما وحده إما لعدم تعلق الغرض بتعدده ، أو لاتصال أحدهما بالآخر ، أو لأن الدخول يكون في واحدٍ واحد . فدخله { وهو ظالمٌ لنفسه } ضارُّ لها بعُجْبه وكفره ، { قال } حين دخوله : { ما أظنُ أن تَبِيدَ هذه } الجنة ، أي : تفنى { أبدًا } لطول أمده وتمادي غفلته ، وإنكارًا لفناء الدنيا وقيام الساعة ، ولذلك قال : { وما أظنُّ الساعة قائمةً } أي : كائنة فيما سيأتي ، { ولئن رُدِدتُ إِلى ربي } بالبعث عند قيامها ، كما تقول ، { لأجدنَّ } حينئذ { خيرًا منها } : من الجنتين { مُنقلبًا } أي : مرجعًا وعاقبة ، أي : كما أعطاني هذا في الدنيا سيعطيني أفضل منه في الآخرة ، ومدار هذا الطمع واليمين الفاجرة : اعتقاد أنه تعالى إنما أولاه ما أولاه في الدنيا لاستحقاقه لذاتِهِ ، وكرامته عليه ، ولم يَدْرِ أن ذلك استدراج . { قال له صاحبه } أخوه المسلم { وهو يُحاوره أكفرتَ بالذي خلقك } أي : أصلك { من ترابٍ } ، فإن خلق آدم عليه السلام من تراب متضمن لخلق أولاده منه إذ لم تكن فطرته مقصورة على نفسه ، بل كانت أنموذجًا منطويًا على فطرة سائر أفراد الجنس ، انطواءً مجانسًا مُستتْبعًا لجريان آثارها على الكل ، فكان خلْقُه عليه السلام من تراب خلقًا للكل منه ، { ثم من نطفة } هي مادتك القريبة ، { ثم سَوَّاك رجلاً } أي : عدلك وكملك إنسانًا ذكرًا ، أو صيرك رجلاً ، وفي التعبير بالموصول مع صلته : تلويح بدليل البعث الذي نطق به قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } [ الحَجّ : 5 ] . قال البيضاوي : جعل كفره بالبعث كفرًا بالله لأنه منشأ الشك في كمال قدرة الله ، ولذلك رتَّب الإنكار على خلقه إياه من التراب ، فإن مَنْ قدر على إبداء خلقه منه قدر أن يعيده منه . هـ . ثم قال أخوه المسلم : { لَكِنَّا } أصله : لكن أنا ، وقُرئ به ، فحُذفت الهمزة ، فالتقت النونان فوقع الإدغام ، { هو الله ربِّي } ، " هو " : ضمير الشأن ، مبتدأ ، خبره : " هو الله ربي " ، وتلك الجملة : خبر " أنا " ، والعائد منها : الضمير ، وقرئ بإثبات " أنا " في الوصل والوقف ، وفي الوقف خاصة ، ومدار الاستدراك قوله تعالى : { أكفرت } ، كأنه قال : أنت كافر ، لكني مؤمن موحد ، { ولا أُشركُ بربي أحدًا } ، وفيه تنبيه على أن كفره كان بالإشراك . قاله أبو السعود . قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي : والذي يظهر من قوله : { ولولا إذ دخلت … } الآية ، ومن قوله : { يا ليتني لم أشرك … } الآية ، أنه إشراك بالله في عدم صرف المشيئة إليه ، ودعوى الاستقلال بنفسه دونه ، وقد قال وهب بن منبه : قرأت في تسعين كتابًا من كتب الله أن من وَكل إلى نفسه شيئًا من المشيئة فقد كفر ، ثم شكه في البعث تكذيب بوعد الله ، وهو كفر صراح . هـ . { ولولا إِذْ دخلتَ جنتك } : بستانك ، { قلتَ ما شاء الله } أي : هلاَّ قُلتَ عند دخولها : { ما شاء الله } أي : الأمر ما شاء الله ، أو ما شاء الله يكون ، والمراد : تحضيضه على الاعتراف بأنها وما فيها بمشيئة الله تعالى ، إن شاء أبقاها ، وإن شاء أخفاها ، { لا قوة إِلا بالله } أي : لا قوة لي على عمارتها وتدبير أمرها إلا بمعونة الله وإقداره . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ رَأَى شَيْئًا فأعْجَبه فَقَالَ : مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بالله ، لَمْ يضُرّهُ شَيءٌ " وقال لأبي هريرة : " أَلاَ أَدُلُك عَلى كَلِمَةٍ مِن كُنُوزِ الْجَنَّة ؟ قَال بَلَى يا رسُول الله ، قال : لاَ قوةَ إلاَّ بالله ، إن قالها العبد قال اللهُ عَزّ وجلّ : أسْلم عبدي واسْتَسْلم " وقال لعبْدِ اللهِ بْنَ قَيْسٍ : " ألاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الجَنَِّةِ ؟ قال : بَلَى ، يا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : " لاَ حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلاَّ بالله " . ثم قال له أخوه المسلم : { إِن ترنِ أنا أقلَّ منك مالاً وولدًا } في الدنيا ، وفيه تقوية لمن فسر النفر بالولد ، { فعسى ربي أن يُؤتين } في الآخرة أو في الدنيا { خيرًا من جنتك } والمعنى : إن ترني أفقر منك فأنا أتوقع من صُنع الله سبحانه أن يقلب ما بي وبك من الفقر والغنى ، فيرزقني جنة خيرًا من جنتك ، ويسلبك لكفرك نعمته ، ويخرب جنتك ، { ويُرسلَ عليها حُسْبانًا } : عذابًا { من السماء } يُذهبها ، من بَرَدٍ أو صاعقة ، وهو جمع : حُسْبَانة ، وهي : المرامي من هذه الأنواع المذكورة ، وتطلق أيضًا ، في اللغة ، على سهام تُرمى دفعة واحدة ، { فتُصبح صعيدًا زَلقًا } أي : أرضًا ملساء ، يزلق عليها الاستئصال ما عليها من النبات والشجر والبناء ، { أو يُصبح ماؤُها } أي : النهر الذي خِلالَها { غَوْرًا } : غائرًا ذاهبًا في الأرض ، و " زلقًا " و " غورًا " : مصدران ، عبَّر بهما عن الوصف مبالغةً . { فلن تستطيعَ له طَلَبًا } أي : لن تستطيع أبدًا للماء الغائر طلبًا ، بحيث لا يبقى له أثر يطلبه به ، فضلاً عن وجدانه ورده . { وأُحِيطَ بثَمَرِه } أي : هلكت أشجاره المثمرة ، وأمواله المعهودة ، وأصله : من إحاطة العدو ، وهو عطف على مُقدر ، كأنه قيل : فوقع بعض ما وقع من المحذور ، وأهلكت أمواله ، رُوي أن الله تعالى أرسل عليها نارًا فأحرقتها وغار ماؤها . { فأصبح يُقلَّب كفَّيه } ظهرًا لبطن ، أو يضرب يديه واحدة على أخرى ، يصفق بهما ، وهو كناية عن الندم ، كأنه قال : فأصبح يندم { على ما أنفق فيها } أي : في عمارتها من الأموال . وجعل تخصيص الندم بها دون ما هلك الآن من الجنة لأنه إنما يكون على الأفعال الاختيارية . انظر أبا السعود . { وهي } أي : الجنة { خاويةً } : ساقطة { على عُرُوشها } أي : دعائمها المصنوعة للكروم ، فسقطت العروش أولاً ثم سقطت الكروم عليها . وتخصيص حالها بالذكر ، دون الزرع والنخل ، إِمَّا لأنها العمدة وهما من متمماتها ، وإِمَّا لأن ذكر هلاكها مُغْن عن ذكر هلاك الباقي لأنها حيث هلكت ، وهي مشتدة بعروشها فهلاك ما عداها أولى ، وإِمَا لأن الإنفاق في عمارتها أكثر . { ويقولُ } أي : يقلب وهو يقول : { يا ليتني لم أشركْ بربي أحدًا } ، كأنه تذكر موعظة أخيه ، وعَلِمَ أنه إنما أُتِيَ من قِبَلِ شِرْكِهِ ، فتمنى أنْ لم يكن مشركًا فلم يصبه ما أصابه . { ولم تكن له فئةٌ } : جماعة { ينصرونه } : يقدرون على نصره بدفع الهلاك عن أمواله ، { من دون الله } ، فإنه القادر على ذلك وحده ، { وما كان منتصرًا } أي : وما كان في نفسه ممنوعًا بقوته من انتقامه سبحانه منه . { هنالك } في ذلك المقام ، وفي تلك الحال { الولاَيةُ لله الحقّ } أي : النصرة له وحده ، لا يقدر عليها أحد غيره ، وقُرئ : " الحقِ " بالكسر ، صفة لله ، وبالرفع ، نعت للولاية . ويُحتمل أن يكون : { هنالك } ظرفًا لمنتصرًا ، أي : وما كان ممتنعًا من انتقام الله منه في ذلك الوقت ، ففيه تنبيه على أن قوله : { يا ليتني لم أشرك } : كان عن اضطرار وجزع مما دهاه ، فلذلك لم ينفعه ، كقوله تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 85 ] . وحينئذ استأنف تعالى الإخبار عن كمال حفظه لأوليائه فقال : { الولايةُ لله الحق } أي : الحفظ والرعاية والنصرة إنما هي من الله لأوليائه في الدنيا والآخرة ، لا يخذلهم في حال من الأحوال ، بل يتولى سياستهم ونصرهم وهدايتهم ، كما هو شأن من اعتز بالله ، دون من اعتز بغيره ، فقوله : { ولم تكن له فئة } : رد لقوله : { وأعزُّ نفرًا } أي : بل النصرة لله لأوليائه ، دون من تولى غيره . والحاصل : أن من تولى الله فعاقبته النصرة ، ومن تولى غيره فعاقبتُه الخذلان . والعياذ بالله . ويحتمل أن يكون قد تَم الكلام على القصة ، ثم أعاد الكلام إلى ما قبل القصة ، فقال : { هنالك } عند ذلك ، يعني : يوم القيامة { الولايةُ لله الحق } يتولون الله ويُؤمنون به ، ويتبرأون مما كانوا يعبدون ، { هو خيرٌ ثوابًا } أي : خير من يرجى ثوابه ، { وخيرُ عُقبًا } أي : عاقبة لأوليائه . والعُقب : العاقبة ، يقال : عاقبة كذا وعُقْبَاهُ وعقبه ، أي : آخره . والله تعالى أعلم . الإشارة : قد ضرب الله مثلاً لمن عكف على هواه ، وقصر همته على زخارف دنياه ، ولمن توجه بهمته إلى مولاه ، وقدَّم دنياه لأخراه ، فكان عاقبة الأول : الندم والخسران ، وعاقبة الثاني : الهنا والرضوان ، أوْ لمن وقف مع علمه واعتمد عليه ، ولمن تبرأ من حوله وقوته في طلب الوصول إليه . قال في لطائف المنن : لا تدخل جنة علمك وعملك ، وما أعطيت من نور وفتح فتقول كما قال من خذِل ، فأخبر الله عنه بقوله : { ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدًا … } الآية . ولكن ادخلها كما بيّن لك ، وقل كما رَضي لك : { ولولا إِذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله } ، وافهم ههنا قوله صلى الله عليه وسلم : " لا حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بالله كَنْزٌ من كُنُوزِ الجنة " وفي رواية أخرى : " كنز من كنوز تحت العرش " . فالترجمة : ظاهر الكنز ، والمكنوز فيها : صدق التبري من الحول والقوة ، والرجوع إلى حول الله وقوته . ثمَّ ضرب مثلاً في سرعة ذهابها وفنائها