Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 41-45)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { إذ قال } : بدل اشتمال من { إبراهيم } ، وما بينهما : اعتراض ، أو متعلق بكان . يقول الحقّ جلّ جلاله : { واذكر في الكتاب } القرآن أو السورة ، { إِبراهيم } أي : اتل على الناس نبأه وبلغه إياهم ، كقوله : { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ } [ الشعراء : 69 ] لأنهم ينتسبون إليه عليه السلام ، فلعلهم باستماع قصته يقلعون عما هم عليه من الشرك والعصيان . { إِنه كان صدّيقًا } ملازمًا للصدق في كل ما يأتي ويذر ، أو كثير التصديق لكثرة ما صدق به من غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله ، فالصدِّيق مبالغة في الصدق ، يقال : كل من صدق بتوحيد الله وأنبيائه وفرائضه ، وعمل بما صدق به فهو صدّيق ، وبذلك سُمي أبو بكر الصدّيق ، وسيأتي في الإشارة تحقيقه عند الصوفية ، إن شاء الله . والجملة : استئناف مسوق لتعليل موجب الأمر فإن وصفه عليه السلام بذلك من دواعي ذكره ، وكان أيضًا { نبيًّا } ، أي : كان جامعًا بين الصديقية والنبوة ، إذ كل نبي صِدِّيق ، ولا عكس . ولم يقل : نبيًا صديقًا لئلا يتوهم تخصيص الصديقية بالنبوة . { إِذْ قال لأبيه } آزر ، متلطفًا في الدعوة مستميلاً له : { يا أبتِ } ، التاء بدل من ياء الإضافة ، أي : يا أبي ، { لِمَ تعبدُ ما لا يسمع } ثناءك عليه حين تعبده ، ولا جُؤَارك إليه حين تدعوه ، { ولا يُبْصِرُ } خضوعك وخشوعك بين يديه ، أو : لا يسمع ولا يبصر شيئًا من المسموعات والمبصرات ، فيدخل في ذلك ما ذكر دخولاً أوليًا ، { ولا يُغْنِي عنك شيئًا } أي : لا يقدر أن ينفعك بشيء في طلب نفع أو دفع ضرر . انظر لقد سلك عليه السلام في دعوته وموعظته أحسن منهاج وأقوم سبيل ، واحتج عليه بأبدع احتجاج ، بحسن أدب ، وخلق جميل ، لكن وقع ذلك لسائرٍ ركب متن المكابرة والعناد ، وانتكب بالكلية عن محجة الصواب والرشاد ، أي : فإنَّ من كان بهذه النقائص يأبى مَن له عقل التمييز من الركون إليه ، فضلاً عن عبادته التي هي أقصى غاية التعظيم ، فإنها لا تحِقُ إلا لمن له الاستغناء التام والإنعام العام ، الخالق الرازق ، المحيي المميت ، المثيب المعاقب ، والشيء لو كان مميزًا سميعًا بصيرًا قادرًا على النفع والضر ، لكنه ممكن ، لاستنكف العقل السليم عن عبادته ، فما ظنك بجماد مصنوع من حجر أو شجر ، ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر . ثم دعاء إلى اتباعه لأنه على المنهاج القويم ، مُصدّرًا للدعوة بما مرَّ من الاستعطاف والاستمالة ، حيث قال : { يا أبتِ إِني قد جاءني من العلم ما لم يأتِكَ } ، لم يَسِمْ أباه بالجهل المفرط ، وإن كان في أقصاه ، ولا نفسه بالعلم الفائق ، وإن كان في أعلاه ، بل أبرز نفسه في صورة رفيق له ، أعرفَ بأحوال ما سلكاه من الطريق ، فاستماله برفق ، حيث قال : { فاتّبِعْنِي أَهدِكَ صراطًا سوِيًّا } أي : مستقيمًا موصلاً إلى أسمى المطالب ، منجيًا من الضلال المؤدي إلى مهاوي الردى والمعاطب . ثم ثبّطه عما كان عليه من عبادة الأصنام ، فقال : { يا أبتِ لا تعبدِ الشيطانَ } ، فإن عبادتك للأصنام عبادة له ، إذ هو الذي يُسولُها لك ويغريك عليها ، ثم علل نهيه فقال : { إِن الشيطان كان للرحمن عَصِيًّا } ، فهو تعليل لموجب النهي ، وتأكيد له ببيان أنه مستعصٍ على ربك ، الذي أنعم عليك بفنون النعم ، وسينتقم منه فكيف تعبده ؟ . والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير ، والاقتصارُ على ذكر عصيانه بترك السجود من بين سائر جناياته لأنه ملاكها ، أو لأنه نتيجة معاداته لآدم وذريته ، فتذكيره به داع لأبيه إلى الاحتراز عن موالاته وطاعته . والتعرض لعنوان الرحمانية لإظهار كمال شناعة عصيانه . وقوله : { يا أبتِ إِني أخاف أن يمسّك عذابٌ من الرحمن } تحذير من سوء عاقبة ما كان عليه من عبادة الشيطان ، وهو اقترانه معه في الهوان الفظيع . و { من الرحمن } : صفة لعذاب ، أي : عذاب واقع من الرحمن ، وإظهار { الرحمن } للإشعار بأن وصف الرحمانية لا يدفع حلول العذاب ، كما في قوله تعالى : { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } [ الانفطار : 6 ] ، { فتكون للشيطان وليًّا } أي : فإذا قرنت معه في العذاب تكون قرينًا له في اللعن المخلد . فهذه موعظة الخليل لأبيه ، وقد استعمل معه الأدب من خمسة أوجه : الأول : ندائه : بيا أبت ، ولم يقل يا آزر ، أو يا أبي . الثاني : قوله { ما لا يسمع … } الخ ، ولم يقل : لِمَ تعبد الخشب والحجر . الثالث : قوله : { إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك } ، ولم يقل له : أنك جاهل ضال . الرابع : قوله : { إني أخاف } ، حيث عبَّر له بالخوف ولم يجزم له بالعذاب . الخامس : في قوله : { أن يمسك } ، حيث عبَّر بالمس ولم يُعبر باللحوق أو النزول . والله تعالى أعلم . الإشارة : قد جمع الحق تبارك وتعالى لخليله مقام الصدّيقة والنبوة مع الرسالة والخلة ، وقدَّم الصديقية لتقدمها في الوجود في حال الترقي ، فالصديقية تلي مرتبة النبوة ، كما تقدم في سورة النساء . فالصدّيق عند الصوفية هو الذي يَعْظُمْ صدقه وتصديقه ، فيصدِّق بوجود الحق وبمواعده ، حتى يكون ذلك نصب عينيه ، من غير تردد ولا تلجلج ، ولا توقف على آية ولا دليل . ثم يبذل مهجته وماله في مرضاة مولاه ، كما فعل الخليل ، حيث قدم بدنه للنيران وطعامه للضيفان وولده للقربان . وكما فعل الصدِّيق ، حيث واسى النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه في الغار ، وخرج عن ماله خمس مرار . وكما فعل الغزالي حيث قدم نفسه للخِرَابِ ، حين اتصل بالشيخ وخرج عن ماله وجاهه في طلب مولاه . ولذلك قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : في حقه : " إنا لنشهد له بالصدِّيقية العظمى " ، وناهيك بمن شهد له الشاذلي بالصدِّيقية . ومن أوصاف الصدّيق أنه لا يتعجب من شيء من خوارق العادة ، مما تبرزه القدرة الأزلية ، ولا يتعاظم شيئًا ولا يستغربه ، ولذلك وصف الحق تعالى مريم بالصديقية دون سارة ، حيث تعجبت ، وقالت : { أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـٰذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } [ هُود : 72 ] وأما مريم فإنما سألت عن وجه ذلك ، هل يكون بنكاح أم لا ، والله تعالى أعلم . وفي الآية إشارة إلى حسن الملاطفة في الوعظ والتذكير ، لا سيما لمن كان معظمًا كالوالدين ، أو كبيرًا في نفسه . فينبغي لمن يذكره أن يأخذه بملاطفة وسياسة ، فيقر له المقام الذي أقامه الله تعالى فيه ، ثم يُذكره بما يناسبه في ذلك المقام ، ويشوقه إلى مقام أحسن منه ، وأما إن أنكر له مقامه من أول مرة ، فإنه يفرّ عنه ولم يستمع إلى وعظه ، كما هو مجرب . وبالله التوفيق . ثمَّ ذكر جواب أبيه له