Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 34-40)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { وإن الله } : عطف على قوله : { إني عبد الله } فيمن كسر ، وعلى حذف اللام فيمن فتح ، أي : ولأن الله ربي وربكم . وقال الواحدي وأبو محمد مكي : عطف على قوله : { بالصلاة } أي : أوصاني بالصلاة وبأن الله … الخ : وقال المحلي : بالفتح ، بتقدير اذكر ، وبالكسر بتقدير " قل " . و { قول الحق } : مصدر مؤكد لقال ، فيمن نصب ، وخبر عن مضمر ، فيمن رفع ، أي : هو ، أو هذا . و { إذا قضى } : بدل من { يوم الحسرة } ، أو ظرف للحسرة . و { هم في غفلة وهم لا يؤمنون } : جملتان حاليتان من الضمير المستقر في الظرف في قوله : { في ضلال مبين } أي : مستقرين في الضلال وهم في تينك الحالتين . يقول الحقّ جلّ جلاله : { ذلك } المنعوت بتلك النعوت الجليلة ، والأوصاف الحميدة هو { عيسى ابنُ مريم } ، لا ما يصفه النصارى به من وصف الألوهية ، فهو تكذيب لهم على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهاني ، حيث جعله موصوفًا بأضداد ما يصفونه به . وأتى بإشارة البعيد للدلالة على علو رُتبته وبُعد منزلته ، وامتيازه بتلك المناقب الحميدة عن غيره ، ونزوله منزلة المشاهد المحسوس . هذا { قولُ الحق } ، أو قال عيسى { قولَ الحق } الذي لا ريب فيه ، وأنه عبد الله ورسوله ، { الذي فيه يمترون } أي : يشكون أو يتنازعون ، فيقول اليهود : ساحر كذاب ، ويقول النصارى : إله ، أو ابن الله . { ما كان لله أن يتخذ من ولد } أي : ما صح ، أو ما استقام له أن يتخذ ولدًا ، { سبحانه } وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا ، فهو تنزيه عما بهتوه ، ونطقوا به من البهتان ، وكيف يصح أن يتخذ الله ولدًا ، وهو يحتاج إلى أسباب ومعالجة ، وأمره تعالى أسرع من لحظ العيون ، { إِذا قضى أمرًا فإِنما يقول له كن فيكون } . ثم قال لهم عيسى عليه السلام : { وإنَّ الله ربي وربكم فاعبدوه } ، فهو من تمام ما نطق به في المهد ، وما بينهما اعتراض ، للمبادرة للرد على من غلط فيه ، أي : فإني عبد ، وإن الله ربي وربكم فاعبدوه وحده ولا تُشركوا معه غيره ، { هذا } الذي ذكرت لكم الذي ذكرت لكم من التوحيد { صراط مستقيم } لا يضل سالكه ولا يزيغ متبعه . قال تعالى : { فاختلف الأحزابُ من بينهم } ، الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، تنبيهًا على سوء صنيعهم ، بجعلهم ما يُوجب الاتفاق منشأ للاختلاف ، فإن ما حكى من مقالات عيسى عليه السلام ، مع كونها نصوصًا قاطعة في كونه عبده تعالى ورسوله ، قد اختلفت اليهود والنصارى بالتفريط والإفراط ، وفرّق النصارى ، فقالت النسطورية : هو ابن الله ، وقالت اليعقوبية : هو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء ، وقالت المِلْكَانية : هو ثالث ثلاثة . { فويلٌ للذين كفروا } وهم : المختلفون فيه بأنواع الضلالات . وأظهر الموصول في موضع الإضمار إيذانًا بكفرهم جميعًا ، وإشعارًا بِعِلِّيَّةِ الحكم ، { من مَشْهَدِ يوم عظيم } أي : ويل لهم من شهود يوم عظيم الهول والحساب والجزاء ، وهو يوم القيامة ، أو : من وقت شهوده أو مكانه ، أو من شهادة اليوم عليهم ، وهو أن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء - عليهم السلام - وألسنتُهم وأيديهم وأرجلهم ، بالكفر والفسوق . { أسمِعْ بهم وأبصرْ } أي : ما أسمعهم وما أبصرهم ، تعجب من حدة سمعهم وإبصارهم يومئذ . والمعنى : أن أسماعهم وأبصارهم { يوم يأتوننا } للحساب والجزاء جدير أن يُتعجب منها ، بعد أن كانوا في الدنيا صمًا عميًا . أو : ما أسمعهم وأطوعهم لما أبصروا من الهدى ، ولكن لا ينفعهم يومئذ مع ضلالهم عنه اليوم ، فقد سمعوا وأبصروا ، حين لم ينفعهم ذلك . قال الكلبي : لا أحد يوم القيامة أسمع منهم ولا أبصر ، حين يقول الله لعيسى : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [ المَائدة : 116 ] . هـ . ويحتمل أن يكون أمر تهديد لا تعجب ، أي : أسمعهم وأبصرهم مواعيد ذلك اليوم ، وما يحيق بهم فيه ، فالجار والمجرور ، على الأول ، في موضع رفع ، وعلى الثاني : نصب . { لكن الظالمون اليومَ } أي : في الدنيا ، { في ضلال مبين } أي : لا يدرك غايته ، حيث غفلوا عن الاستماع والنظر بالكلية . ووضع الظالمين موضع الضمير للإيذان بأنهم في ذلك ظلمون لأنفسهم حيث تركوا النظر . { وأنذرهم يوم الحسرة } يوم يتحسر الناس قاطبة ، أما المسيء فعلى إساءته ، وأما المحسن فعلى قلة إحسانه ، { إِذ قُضيَ الأمر } أي : فرغ من يوم الحساب ، وتميز الفريقان ، إلى الجنة وإلى النار . رُوِيَ أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن ذلك ، فقال : " حين يجاء بالموت على صورة كبش أملح ، فيُذبح ، والفريقان ينظرون ، فينادى يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ، فيزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم ، وأهل النار غمًا إلى غمهم ، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم : { وأنذرهم يوم الحسرة إِذْ قُضي الأمر وهم في غفلة } ، وأشار بيده إلى الدنيا " قال مقاتل : لولا ما قضى الله من تعميرهم فيها ، وخلودهم لماتوا حسرة حين رأوا ذلك . { وهم } في هذا اليوم { في غفلة } عما يراد بهم في الآخرة ، { وهم لا يُؤمنون } بهذا لاغترارهم ببهجة الدنيا ، فلا بد أن تنهد دعائمها ، وتمحى بهجتها ، ويفنى كل ما عليها ، قال تعالى : { إِنا نحن نرث الأرضَ ومَنْ عليها } لا ينبغي لأحد غيرنا أن يكون له عليها وعليكم ملك ولا تصرف ، أو : إنا نحن نتوفى الأرض ومن عليها ، بالإفناء والإهلاك ، توفي الوارث لإرثه ، { وإِلينا يُرجعون } يُردون إلى الجزاء ، لا إلى غيرنا ، استقلالاً أو اشتراكًا . والله تعالى أعلم . الإشارة : ينبغي للعبد المعتني بشأن نفسه أن يحصِّن عقائده بالدلائل القاطعة ، والبراهين الساطعة ، على وفاق أهل السُنَّة ، ثم يجتهد في صحبة أهل العرفان ، أهل الذوق والوجدان ، حتى يُطلعوه على مقام الإحسان ، مقام أهل الشهود والعيان . فإذا فرط في هذا ، لحقه الندم والحسرة ، في يوم لا ينفع فيه ذلك . فكل من تخلف عن مقام الذوق والوجدان فهو ظالم لنفسه باخس لها ، يلحقه شيء من الخسران ، ولا بد أنْ تبقى فيه بقية من الضلال ، حيث فرط عن اللحوق بطريق الرجال ، قال تعالى : { لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين } . { وأنذرهم يوم الحسرة } أي : يوم يرفع المقربون ويسقط المدعون . فأهل الذوق والوجدان حصل لهم اللقاء في هذه الدار ، ثم استمر لهم في دار القرار . رُوي أن الشيخ أبا الحسن الشاذلي رضي الله عنه قال يومًا بين يدي أستاذه : اللهم اغفر لي يوم لقائك . فقال له شيخه - القطب ابن مشيش - رضي الله عنهما : هو أقرب إليك من ليلك ونهارك ، ولكن الظلم أوجب الضلال ، وسبقُ القضاء حَكَمَ بالزوال عن درجة الأُنْس ومنازل الوصال ، وللظالم يومٌ لا يرتاب فيه ولا يخاتل ، والسابق قد وصل في الحال ، " أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين " . هـ . كلامه رضي الله عنه . ثم استتبع بذكر قصص الانبياء تتمة للرد على أهل الشرك