Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 49-50)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { وكُلاًّ } : مفعول أول لجعلنا ، و { عَلِيًّا } : حال من اللسان . يقول الحقّ جلّ جلاله : { فلما اعتزلهم } أي : اعتزل إبراهيمُ قومَه { وما يعبدون من دون الله } بأن خرج من " كوثى " بأرض العراق ، مهاجرًا إلى الشام واستقر بها ، { وهبنا له إسحاق } ولده { ويعقوبَ } حفيده ، بعد أن وهب له إسماعيل من أمَته هاجر ، التي وُهبت لزوجه سارة ، ثم وهبتها له ، فوُلد له منها إسماعيل ، ولما حملت هاجر بإسماعيل غارت منها سارة ، فخرج بها مع ولدها إسماعيل حتى أنزلهما مكة ، فكان سبب عمارتها . ثم حملت سارة بإسحاق ، ثم نشأ عنه يعقوب ، وإنما خصهما بالذكر لأنهما كانا معه في بلده ، وإسحاق كان متصِلاً به يسعى معه في مآربه ، فكانت النعمة بهما أعظم . ولعل ترتيب هبتهما على اعتزاله ها هنا لبيان كمال عِظم النعمة التي أعطاها الله تعالى إياهُ ، في مقابلة من اعتزلهم من الأهل والأقارب ، فإنهما شجرة الأنبياء ، لهما أولاد وأحفاد ، لكل واحد منهم شأن خطير وعدد كثير . { وكُلاًّ جعلنا نبيًّا } أي : وكل واحد منهما أو منهم جعلناه نبيًا ورسولاً . { ووهبنا لهم من رحمتنا } هي النبوة ، وذكرها بعد ذكر جعلهم أنبياء للإيذان بأنها من باب الرحمة والفضل . وقيل : الرحمة : المال والأولاد ، وما بسط لهم من سعة الرزق ، وقيل : إنزال الكتاب ، والأظهر أنها عامة لكل خير ديني ودنيوي . { وجعلنا لهم لسانَ صدقٍ عليًّا } : رفيعًا في أهل الأديان ، فكل أهل دين يتلونهم ، ويثنُون عليهم ، ويفتخرون بهم استجابة لدعوته بقوله : { وَٱجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي ٱلآخِرِينَ } [ الشُّعَرَاء : 84 ] . والمراد باللسان : ما يوجد به الكلام في لسان العرب ولغتهم ، وإضافته إلى الصدق ، ووصفه بالعلو للدلالة على أنهم أحقاء لما يثنون عليهم ، وأن محامدهم لا تخفى على تباعد الأعصار ، وتبدل الدول ، وتحول الملل والنحل . والله تعالى أعلم . الإشارة : كل من اعتزل عن الخلق وانفرد بالملك الحق ، طلبًا في الوصول إلى مشاهدة الحق ، لا بد أن تفيض عليه المواهب القدسية والأسرار الوهبية والعلوم اللدنية ، وهي نتائج فكرة القلوب الصافية ، وفي الحكم : " ما نفع القلب شيءٌ مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة " . قال الجنيد رضي الله عنه : أشرف المجالس وأعلاها الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد . وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : ثمار العزلة : الظفر بمواهب المنة ، وهي أربعة : كشف الغِطاء ، وتنزل الرحمة ، وتحقق المحبة ، ولسان الصدق في الكلمة ، قال الله تعالى : { فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له } الآية . وقال بعض الحكماء : من خالط الناس داراهم ، ومن داراهم راءاهم ، ومن راءاهم وقع فيما وقعوا ، فهلك كما هلكوا . وقال بعض الصوفية : قلت لبعض الأبدال المنقطعين إلى الله : كيف الطريق إلى التحقيق ؟ قال : لا تنظر إلى الخلق ، فإن النظر إليهم ظلمة ، قلت : لا بد لي ، قال : لا تسمع كلامهم ، فإن كلامهم قسوة ، قلت : لا بد لي ، قال : لا تعاملهم ، فإن معاملتهم خسران ووحشة ، قلت : أنا بين أظهرهم ، لا بد لي من معاملتهم ، قال : لا تسكن إليهم ، فإن السكون إليهم هلكة ، قلت : هذا لعله يكون ، قال : يا هذا أتنظر إلى اللاعبين ، وتسمع كلام الجاهلين ، وتعامل البطالين ، وتسكن إلى الهلكى ، وتريد أن تجد حلاوة الطاعة وقلبك مع الله ؟ ! هيهات . … هذا لا يكون أبدًا ، ثم غاب عني . وقال القشيري رضي الله عنه : فأرباب المجاهدات ، إذا أرادوا صون قلوبهم عن الخواطر الردية لم ينظروا إلى المستحسنات - أي : من الدنيا - . قال : وهذا أصل كبير لهم في المجاهدات في أحوال الرياضة . هـ . وقال في " القوت " : ولا يكون المريد صادقًا حتى يجد في الخلوة من الحلاوة والنشاط والقوة ما لا يجده في العلانية ، وحتى يكون أُنسه في الوحدة ، وروحه في الخلوة ، وأحسن أعماله في السر . هـ . قلت : العزلة عن الخلق والفرار منهم شرط في بداية المريد ، فإذا تمكن من الشهود ، وأَنس قلبه بالملك الودود ، واتصل بحلاوة المعاني ، ينبغي له أن يختلط بالخلق ويربي فكرته لأنهم حينئذ يزيدون في معرفته ويتسع بهم لأنه يراهم حينئذ أنوارًا من تجليات الحق ، ونوارًا يرعى فيهم ، فيجتني حلاوة الشهود ، وفي ذلك يقول شيخ شيوخنا المجذوب : @ الخَلْقُ نَوارٌ وَأَنا رَعَيْتُ فِيهِمُ هُمُ الحجَابُ الأكْبَرُ والمَدْخَلُ فيهِمُ @@ وفي مقطعات الششتري : @ عين الزحام هم الوصول لحيِّنا @@ وبالله التوفيق . ثمَّ ذكر قصة موسى عليه السلام