Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 75-76)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { ويزيد } : عطف على { فليَمدُد } لأنه في معنى الخبر ، أي : من كان في الضلالة يمده الله فيها ، ويزيد في هداية الذين اهتدوا مددًا لهدايتهم ، أو عطف على { فسيعلمون } ، وجمع الضمير في { رَأَوا } وما بعدها باعتبار معنى { مَنْ } ، وأفرد أولاً باعتبار لفظها . يقول الحقّ جلّ جلاله : { قُلْ } يا محمد { مَنْ كان } مستقرًا { في الضلالة } مغمورًا في الجهل والغفلة عن عواقب الأمور ، مشتغلاً بالحظوظ الفانية ، { فليَمْدُدْ له الرحمنُ مَدَّا } أي : يمد له بطول العمر وتيسير الحظوظ ، إما استدراجًا ، كما نطق به قوله تعالى : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً } [ آل عِمرَان : 178 ] ، أو قطعًا للمعاذير كما نطق به قوله تعالى : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّر } [ فاطر : 37 ] ، أو : { فليمدد له } : يدعه في ضلاله ، ويمهله في كفره وطغيانه ، كقوله تعالى : { وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأنعام : 110 ] . والتعرّض لعنوان الرحمانية لبيان أن أفعالهم من مقتضيات الرحمة مع استحقاقهم تعجيل الهلاك . وكأنه جلّ جلاله لما بيَّن عاقبة الأمم المهلَكة ، مع ما كان لهم من التمتع بفنون الحظوظ العاجلة ، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب هؤلاء المفتخرين بما لَهُم من الحظوظ بمآل أمر الفريقين ، وهو استدراج أهل الضلالة ثم أخذهم ، وزيادة هداية أهل الإيمان ثم إكرامهم ، كما بيَّن ذلك بقوله : { حتى إِذا رَأوا ما يُوعدون } ، فهو غاية للحد الممتد ، أي : نمد لهم في الحياة وفنون الحظوظ حتى ينزل بهم ما يوعدون { إِمَّا العذاب } الدنيوي بالقتل ، والأسر ، وغلبة أهل الإيمان عليهم ، { وإِمَّا الساعةَ } ، وهو يوم القيامة وما ينالهم فيه من الخزي والهوان ، و " إما " هنا : لمنع الخُلو ، لا لمنع الجمع فإن العذاب الأخروي لا ينفك عنهم بحال . { فسيعلمون } حينئذ { مَن هو شرٌّ مكانًا } من الفريقين ، بأن يشاهدوا الأمر على عكس ما كانوا يُقدّرون ، فيعلمون أنهم شر مكانًا ، لا خير مقامًا ، { و } يعلمون أنهم { أضعفُ جندًا } أي : جماعة وأنصارًا ، لا أحسن نَدِيًّا ، كما كانوا يدعونه ، وليس المراد أن لهم يوم القيامة جندًا سيَضعف ، وما كان له من فئة ينصرونه من دون الله ، وإنما ذكر ذلك ردًّا لما كانوا يزعمون أن لهم أعوانًا وأنصارًا ، يفتخرون في الأندية والمحافل ، فردَّ ذلك بأنه باطل وظل آفل ، ليس تحته طائل . ثم ذكر فريق أهل الإيمان فقال : { ويزيدُ اللهُ الذينَ اهتدوا هُدَىً } أي : كما يمد لأهل الضلالة زيادة في ضلالهم ، كذلك يزاد في هداية أهل الهداية ثوابًا على طاعتهم لأن كلا يجزى بوصفه ، فلا تزال الهداية تنمو في قلوبهم حتى يردوا موارد الكرم ، أمَّا في الدنيا فبكشف الحجاب وانقشاع السحاب حتى يشاهدوا رب الأرباب ، فما كانوا يؤمنون به غيبًا صار عيانًا ، وأمَّا في الآخرة فبنعيم الحور والقصور ، ورؤية الحليم الغفور . فقد بيَّن الحق تعالى حال المهتدين إثر بيان حال الضالين ، وأن إمهال الكافر وتمتيعه بالحظوظ ليس لفضله ، وإن منع المؤمن من تلك الحظوظ ليس لنقصه ، بل قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا الفانية ، وقوم ادخرت لهم طيباتهم للحياة الباقية ، قال تعالى : { والباقياتُ الصالحاتُ } كأنواع الطاعات ، { خيرٌ عند ربك } لبقاء فوائدها ودوام عوائدها … وقد تقدم تفسيرها . والتعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه ، أي : فهي أفضل { ثوابًا } أي : عائدة مما يتمتع به الكفرة من النعم الفانية ، التي يفتخرون بها لأن مآلها الحسرة السرمدية والعذاب الأليم ، ومآل الباقيات الصالحات النعيم المقيم في دار الدوام ، كما أشير إليه بقوله : { وخيرٌ مَرَدًّا } أي : مرجعًا وعاقبة ، وتكرير الخير لمزيد الاعتناء بشأن الخيرية وتأكيد لها في التفضيل ، مع أن ما للكفرة بمعزل من أن يكون له خيرية في العاقبة ، ففيه نوع تهكم بهم . والله تعالى أعلم . الإشارة : اعلم أن الحق - جلّ جلاله - يرزق العبد على قدر نيته ، ويمده على قدر همته ، فمن كانت همته في الحظوظ العاجلة والشهوات الفانية ، أمده الله فيها ، ومتعه بها ما شاء ، على حسب القسمة ، ثم أعقبه الندم والحسرة ، ومن كانت همته الآخرة ، أمده سبحانه في الأعمال التي تُوصله إلى نعيمها ، كصلاة وصيام وصدقة وتدريس علم ، وأذاقه من حلاوتها ما يُهون عليه مرارتها ، ثم أعقبه النعيم الدائم من القصور والحور ، وأنواع الطيبات ، مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين . ومن كانت همته الله - أي : الوصول إلى حضرته دون شيء سواه - أمده الله في الأعمال التي توصله إليه ، وهي أعمال القلوب من التخلية والتحلية ، كالتخلية من الرزائل والتحلية بالفضائل ، وكقطع المقامات بأنواع المجاهدات ، ورأس ذلك أن يُوصله إلى شيخ كامل جامع بين الحقيقة والشريعة ، بين الجذب والسلوك ، قد سلك الطريق على شيخ كامل ، فإذا وصله إليه وكشف له عن سر خصوصيته فليستبشر بحصول المطلب وبلوغ الأمل . وبالله التوفيق . ثمَّ ذكر بعض من مدَّ له في الضلاله