Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 174-176)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { ما } تعجبية ، مبتدأ ، وهي نكرة ، وسوَّغَ الابتداء َ معنى التعجب ، وجملة { أصبرهم } خبر ، أي : أيُّ شيء عظيم صيَّرهم صابرين ، أو استفهامية ، أي : أيُّ شيء حملهم على الصبر على النار ؟ يقول الحقّ جلّ جلاله : في رؤساء اليهود وعلمائهم ، كانوا يُصيبون من سفلتهم الهدايا والخَرَاج ، ويدَّعون أن النبيّ المبعوث منهم ، فلما بُعِثَ نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم خافوا ذهاب مأكلتهم ورئاستهم ، فأنزل الله : { إن الذين يكتمون ما أنزل الله } في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويحرفونها في المعنى ويَنْزِعُونها { من الكتاب } أي : التوراة ، { ويشترون } بذلك التحريف { ثمناً قليلاً } أي : عِوَضاً حقيراً يذهب ويفنَى في زمان قليل { أولئك } الذين يكتمون ويأكلون ذلك العوض الحقير - { ما يأكلون في بطونهم } إلا نار جهنم لأنهم مآلهم وعقوبة أكلهم ، { ولا يكلمهم الله } إهانة وغضباً عليهم حين يُكلم أولياءه ويُسلم عيلهم ، { ولا يزكيهم } أي : لا يطهرهم من دنَس ذنوبهم حتى يتأهلون للحضرة ، { ولهم عذاب أليم } مُوجع . { أولئك الذين } استبدلوا { الضلالة بالهدى } أي : باعوا الهدى واشتروا به الضلالة ، واستبدلوا { العذاب بالمغفرة } التي كانت لهم لو آمنوا وبيّنوا ، فما أجرأهم على اقتحام النار باقتحام أسبابها ، أو فما أبقاهم في النار ، أو ما الذي أصبرهم على النار حتى تركوا الحق ومالوا إلى الباطل ؟ ! استفهام توبيخي . { ذلك } العذاب الذي استحقوه وتجرءوا عليه بسبب أن { الله } تعالى { نزل الكتاب } القرآن ملتبساً { بالحق } ، فاختلفوا فيه فآمنوا ببعض وكفروا ببعض ، { وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد } أي : لفي خلاف وضلال بعيد . الإشارة : كل من كتم علمه ، ولم ينشرْه إلا في مقابلة حظ دنيوي ، صَدَق عليه قولُه تعالى : { ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار } . رُوِيَ أن بعض الصحابة كان يُقرئ أهل الصُّفّة ، فأَهْدَى له أحدُهم قوساً ، فأتى به النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله : كنت أُعلِّمُ أهلَ الصفة فأهدى لي فلان قوساً ، وقال : هو لله ، فقال له - عليه الصلاة والسلام - : " لقدْ تقلدتَ قَوسْاً مِنْ نَارِ جَهنم " أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، وأمره بردِّه . ولعل هذا من باب الورع ، فأراد عليه السلام أن يرفع همة ذلك الصحابي ، وإلا فقد ورد في الحديث : " أَحَقُّ ما أَخَذْتُمْ علَيْهِ الأجرَ كتَابُ اللّهِ " . فمن ملَكَتْه نفسه ، وأسره الهوى ، فقد اشترى الضلالة بالهدى ، اشترى الضلالة عن طريق أولياء الله ، بالهدى الذي كان له ملَكَ نفسه وهواه ، وعذابَ القطيعة والحجاب ، بالمغفرة والدخول مع الأحباب ، فما أصبرهم على غم الحجاب وسوء الحساب ، سبب ذلك اختلاف قلبه ، وتفريق همه ولُبَّه ، وقد قال - عليه الصلاة والسلام - : " اقْرَءوا القُرْآنَ ما ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُبُكمْ ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا " أو كما قال : وسببت تفرق القلب وعدم حضوره ، حبُّ الدنيا فقد قال عليه الصلاة والسلام : " مَنْ كَانَت الدُّنيا هَمَّهُ فَرَّقَ اللّهُ عَلَيْه أمْرَه ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، ولَمْ يَأتِهِ مِنَ الدُّنْيا إلا من قُسِمَ لَهُ ، ومن كَانَتِ الآخرةُ نيته ، جَمَعَ اللّهُ عليه أمْرَهُ ، وَجَعَلَ غِنَاهُ في قَلْبه ، وأتتْهُ الدُنيَا وَهِيَ رَاِغِمةً " . والقلب الذي اختلَف في فهم الكتاب وتشتَّت عنه في شقاق بعيد عن الحضرة لأن عُنْوان صحة القلب : جمعُه على كلام الله وتدبر خطابه والتلذذ بسماعه ، وقد تقدم في أول السورة درجات القراءة : فانظره إن شئت . وبالله التوفيق .