Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 177-177)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : لمّا ذكر الحقّ تعالى التوحيد وبراهينه الذي هو رأس الدين ، وحذَّرَ من الشرك وفروعه ، ذكر هنا بقية أركان الدين ، وهي الإيمان والإسلام ، ذكر في هذه الآية قواعد الإيمان وبعض قواعدِ الإسلام وهي الصلاة والزكاة ، ثم ذكر بعد ذلك الصيام وأحكامه ، ثم ذكر الحج وأركانه ، ثم ذكر الجهاد والنكاح والطلاق والعِدَّة ، ثم ذكر البيوع ، وما يتعلق بها من الربا ، ثم الشهادات والرهَان ، وبها ختم السورة . لكن الحديث ذو شُجون ، والكلام يَجُرُّ بعضُه بعضاً ، فقوله : { ليس البر أن تولوا } : اسم ليس وخبرها ، وكلاهما مُعَرَّفَتان ، الأول بأل والثاني بالإضافة ، إذا التقدير : توليةُ وجوهكم ، فمن رجَّح تعريف الألف واللام . جعل { البر } اسمها ، و { أن تولوا } خبرها ، وبه قرأ الأكثر ، ومن رجح الإضافة جعل { البر } خبرها مقدماً ، والمصدر اسمها مؤخراً ، وبه قرأ حمزة وحفص . وقوله : { ولكن البر } مَنْ خَفَّفَ جعلها عاطفة الجملة ، و { البر } مبتدأ ، و { من آمن } خبر على حذف مضاف ، أَيْ : بِرُّ من آمن إذ لا يُخْبَرُ بالذات عن المعنى ، أو قصد المبالغة ، ومن شدَّد نصب بها ، لوقوعها بين جملتين ، وهي استدراكية ، و { على حبه } حال من المال ، و { الصابرين } نصب على المدح ، ولم يعطفه بالرفع لفضل الصبر وشرفه . يقول الحقّ جلّ جلاله : في الرد على أهل الكتاب : { ليس البر } محصوراً في شأن القبلة ، { ولكن البر } الذي ينبغي أن يُعتنى بشأنه هو الإيمان بالله ، وما يجب له من الكمالات ، وباليوم الآخرة وما بعده ، وبالملائكة وما يجب أن يعتقد في شأنهم ، والكتاب المنزل من السماء كالقرآن وغيره ، { والنبيين } وما يجب لهم وما يستحيل في حقهم . فالبر هو بر من اعتقد في قلبه هذه الأشياء ، وأظهر على جوارحه ما يصدق صحة اعتقادها ، وذلك كالاتصاف بالسخاء والكرم ، فأعطى المال على محبته له ، أي : مع حبه ، فقد سئل - عليه الصلاة والسلام - : " أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ فقال : أن تَتَصَدَّقَ وأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ ، تأمُلُ الْغِنَى وتَخشَى الفَقْر " و { آتى المال } على حب الله ، لا جزاء ولا شكوراً ، فأعطى ذلك المال ذوي قرابته المحَاويج ، وقدَّمهم لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " صَدَقَتُك على المَساكينِ صَدَقَةٌ ، وعَلَى ذَوِي القُربى اثنتان صَدَقَةٌ وصِلَةٌ " وأعطى { اليتامى } لإهمالهم ، وأعطى { المساكين } الذين أسكنهم الفقر في بيوتهم ، { وابن السبيل } وهو المسافر الغريب ، كأن الطريق وَلَدْته ، أو الضيف { والسائلين } ألجأتهم الحاجة إلى السؤال . وفي الحديث : " أَعْطِ السائِلَ ولو على فَرَسِه " وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم : " هَدِيَّةُ اللّهِ إلى المؤمن السائلُ على بَابِه " وأعطى في فَكّ { الرقاب } من الرق أو الأسر . { وأقام الصلاة } المفروضة ، { وآتى الزكاة } المعلومة . ومن أهل البر أيضاً : { المُوفُون بعهدهم } فيما بينهم وبين الله ، وفيما بينهم وبين الناس { إذا عاهدوا } الله أو عبادة ، فإذا وعدوا أنجزوا ، وإذا حلفوا أو نذروا أوفوا ، وإذا قالوا صدقوا ، وإذا ائتمنوا أدَّوْا ، وأخُصُّ من أهل البر { الصابرينَ في البأساء } كالفقر والذل وإذاية الخلق ، و { الضراء } كالمرض والزَّمَانة ، أو { البأساء } : الأهوال ، و { الضراء } في الأنفس ، والصابرين { حين البأس } أي : الحرب والجهاد ، { أولئك الذين صدقوا } في طلب الحق ، { وأولئك هم المتقون } لكل ما يقطع عن الحق ، أو يشغل عنه . فقد اشتملت هذه الآية على كمالات الإنسان بأسرها لاشتمالها على ما يَزِين البواطنَ من الاعتقادات وما يزين الظواهر من المعاملات ، وما يُزَكِّي النفوس من الرذائل ويُحَلِّيها بالمحاسن والكمالات . ولذلك وُصف المتصف بها بالصدق والتقى ، اللذين هما أساسُ الطريقة ومبنَى أسرار التحقيق ، وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق . الإشارة : ليس المطلوب من العبد أن يَتَوجَّه إلى الحق بجِهَةٍ مخصوصة ، كما إذا توجه إليه بالظاهر وأهملَ الباطن ، أو توجه بالباطن وأهمل الظاهر ، ولكن المطلوب منه أن يُزين باطنه بأنوار الإيمان واليقين ، ويزين ظاهره بسائر وظائف الدين ، ويزكي نفسه من الرذائل كالشح والبخل والغش والخيانة والكذب والخَوْف والجزَع ، ويحليها بأنواع الفضائل كالسخاء والكرم والوفاء بالعهد والأمانة ، والصبر والشجاعة ، والعفة والقناعة ، وسائر أنواع الفضائل ، فإذا تخلّى عن الرذائل وتحلّى بأضدادها من الفضائل استحق الدخول مع الأبرار ، وكان من العارفين الكبار ، أولئك الذين ظفروا بصدق الطلب فنالوا الغاية من كل مطلب ، وأولئك هم المتقون حق التقاة ، فنالُوه أعلى الدرجات ، منحنا الله من ذلك الحظ الوافر بمنِّه وكرمه .