Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 189-189)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ … } قلت : الذي سأله معاذُ بن جبل وثعلبةُ بن غنمة ، فقالا : يا رسول الله : ما بال الهلال يبدو رقيقاً كالخيط ، ثم لا يزال يزيد حتى يستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يرجع كالخيط ؟ فقال الحقّ جلّ جلاله : { يسألونك عن الأهلة } أي : عن حكمة اختلاف الأهلة بالزياة والنقص { قل } لهم يا محمد : { هي مواقيت للناس } يُوقِّتُون بها دُيونهم ، ويعرفون بها أوقات زَرْعهم ، وعِدَدَ نسائهم وصيامهم ، وهي أيضاً مواقيتُ للحج ، يعرفون بذلك وقت دخوله وخروجه ، فيعرفون الأداء من القضاء ، فلو كانت على حالة واحدة لم يعرفوا ذلك . أجابهم الحق تعالى بغير ما ينتظرون أشارة إلى أن السؤال عن سر الاختلاف ، ليس فيه منفعة شرعية ، وإنما ينبغي الاهتمام بما فيه منفعة دينية . قال أهل الهيئة : إن نورة من نُور الشمس ، وجِرْمه أَطْلَس ، فكلما بعد من مُسَامته الشمس قابَله نورُها ، فإذا قرب منها لميقابله من نورها إلا بعض جِرمه ، فإذا دخل تحتها في الفلك كان ظَهره كله إليها ، فلم يقابله شيء من نورها ، فإذا خرج مِنح تحتِها قابله بقدر ذلك ، والله تعالى أعلم . الإشارة : إذا ظهر هلال السعادة في أفق الإرادة ، وهبَّت ريح الهداية من ناحية سابق العناية ، دخل وقت حج القلوب إلى حضرة علام الغيوب ، فهلال الهداية للسائرين ، وهم أرباب الأحوال أهل التلوين ، يزداد نوره بزيادة اليقين ، وينقص بنقصانه ، على حسب ضعف حاله وقته ، حتى يتحقق الوصال ، ويُرزق صف الكمال . وأنشدوا : @ كُلَّ يومٍ تَتَلَوَّنْ غيرُ هذا بِكَ أَجْمَلْ @@ فصاحب التلوين بين الزيادة والنقصان ، إلى أن تطلع عليه شمس العرفان ، فإذا طلعت شمس العرفان فليس بعدها زيادة ولا نقصان ، وأنشدوا : @ طَلَعَتْ شمسُ من أُحِبُّ بلَيْلٍ واستضاءتْ فما تَلاها غُروبُ إنَّ شَمْسَ النَّهارِ تَغْربُ بالليــ ـل وشَمْسَ القُلوب لَيْسَتْ تَغيبُ @@ بخلاف صاحب التمكين فإنه أبدا في ضياء معرفته ، متكنٌ في بُرج سعادته ، لا يلحق شمسَه كسوف ولا حجابٌ ، ولا يستر نورَها ظلمةٌ ولا سحاب ، فلو طلب الحجاب لم يُجَبْ . قال بعض العارفين : لو كُلتُ أنْ أَرى غيره لم أستطع ، فإنه لا غير معه حتى أشهده . ثم حذَّر الحق تعالى مما اتبدعه المشركون في الحج ، فقال : { … وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 189 } قلت : كانت الأنصار إذا حَجُّوا أو اعتمروا ، يقولون : لا يَحُول بيننا وبين السماء سَقْفٌ ، حتى يدخلوا بيوتهم ، فإذا رجعوا تسوَّرُوا الجُدْران ، أو نَقَبُوا في ظهور بيوتهم ، فجاء رجالٌ منهم فدخل من الباب ، فَعُيِّر بذلك ، فأنزل الحقّ جلّ جلاله : { وليس البر } أي : الطاعة ، { بأن تأتوا البيوت من ظهورها } فتتسوروها ، أو تنقُبوا من أعلاها ، { ولكن البر من اتقى } المحارم وخالف الشهوات . أو : ليس البر بأن تعكسوا مسائلكم بأن تسألوا عما لا نفع لكم فيه ، وتتركوا مسائل العلم التي تنفعكم في العاجل والآجل . { ولكن البر من اتقى } ذلك ، { وأتوا } بيوت العلم من أبوابها ، فتُحسنون السؤال وتتأدبون في المقال ، وتقدمون الأهم فالأهم ، والأنفع فالأنفع . { واتقوا الله } فلا تُغيروا أحكامه ، ولا تعترضوا على أفعاله { لعلكم تفلحون } بتوفيقه وهدايته . الإشارة : اعلم أن البيوت التي يدخلها المريد ثلاثة : بيت الشريعة وبيت الطريقة وبيت الحقيقة ، ولكل واحد أبواب فمن أتى البيت من بابه دخل . ومن أتاه من غيره طُرد . فبيت الشريعة له ثلاثة أبواب : الباب الأول : التوبة ، فإذا دخل هذا الباب ، وحقَّق التوبة بأركانها وشروطها ، استقبله باب الاستقامة ، وهي : متابعة الرسول في أقواله وأفعاله وأحواله ، فإذا دخله ، وحقق الاستقامة ، استقبله باب التقوى بأقسامها . فإذا حقق التقوى ظاهراً وباطناً ، دخل بيت الشريعة المطهرة ، وتنزه في محاسنه ومعانيه ، ثم يروم دخول بيت الطريقة ، وله ثلاثة أبواب : الباب الأول : الإخلاص وهو : إفراد العمل لله نم غير حرف ولا حظ ، فإذا حقق الإخلاص استقبله باب التخلية وهي التظهير من العيوب الباطنة ، وهي لا تنحصر ، لكن من ظفر بالشيخ أطلعه عليها ، وعلَّمه أودتيها ، فإذا حقق التخلية استقبله باب التحلية ، وهي : الاتصاف بأنواع الفضائل كالصبر والحلم والصدق والطمأنينة والسخاء والإيثار ، وغير ذلك من أنواع الكمالات . فإذا حقق الإخلاص والتخلية والتحلية فقد حقق بيت الطريقة ، ثم يستقبله بيت الحقيقة . فأول ما يقرع باب المراقبة ، وهي : حفظ القلب والسر من الخواطر الردية ، فإذا تطهر القلب من الخواطر الساكنة ، استشرف على باب المشاهدة ، وهي : محو الرسول في مشاهدة أنوار الحيّ القيّوم ، أو تلطيف الأواني عند ظهور المعاني ، فإذا دخل باب المشاهدة ، وسكن فيها ، استقبله باب المعرفة ، وهي محلّ الرسوخ والتمكين ، وهي الغاية والمنتهى ، فبيت الحقيقة وهو مسجد الحضرة الربانية . وما بقي بعدها إلا الترقي في المقامات ، وزيادة المعارف والكشوفات أبداً سرمداً ، منحنا الله من ذلك حظّاً وافراً بمنّه وكرمه .