Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 190-195)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { التهلكة } : مصدر هلك - بتشديد اللام - قاله ابن عطية . وضمن { تُلْقُوا } معنى تفضوا ، أو تنتهوا ، فعدَّاه بإلى ، أي : ولا تفضوا بأنفسكم إلى التهلكة . ولا يحتاج إلى زيادة الباء . وسبب نزول الآية : أن المشركين صَدُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، وصالحوه على أن يرجع في قابل ، فيخلوا له البيت ثلاثة أيام ، فرجع لعمرة القضاء ، وخاف المسلمون ألا يفوا لهم ، فيقاتِلُوا في الحرم والشهر الحرام ، وكرهوا ذلك ، فنزلت الآية . يقول الحقّ جلّ جلاله : { وقاتلوا في سبيل الله } وإعلاء كلمته { الذين يقاتلونكم } أي : يبدءونكم بالقتال ، { ولا تعتدوا } فتقاتلوهم قبل أن يبدءوكم ، { إن الله لا يحب المعتدين } لا ينصرهم ولا يؤيدهم . ثم نسخ هذا بقوله : { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً … } [ التوبة : 36 ] الآية . { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } أي : وجدتموهم ، ولا تتحرجوا من قتالهم في الحرم ، فإنهم هم الذين صدوكم وبدأوكم بالإذاية ، { وأخرجوهم } من مكة { حيث أخرجوكم } منها ، { والفتنة } أي : الكفر الذي هم فيه ، { أشد من القتل } لهم في الحرم ، { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } ابتداءً { حتى يقاتلوكم فيه ، فإن قاتلوكم } فيه { فاقتلوهم } فيه ، وفي غيره ، { كذلك جزاء الكافرين } يفعل بهم ما فعلوا بغيرهم ، { فإن انتهوا } عن الشرك وأسلموا { فإن الله غفور } لهم { رحيم } بهم . { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } أي : شرك { ويكون الدين } خالصاً { لله } بحيث لا يبقى في جزيرة العرب إلا دين واحد ، { فإن انتهوا } عن قتالكم ، فلا تعتدوا فإن { لا عدوان إلا على الظالمين } إذ لا يحسن أن يظلم إلا من ظلم . القتال الصدر منكم لهم في { الشهر الحرام } في مقابلة الصد الذي صدر منهم لكم في الشهر الحرام ، { والحرمات قصاص } يقتص بعضها من بعض ، فكما انتهكوا حرمة الشهر الحرام ، بمنعكم من اليبت ، فانتهكوا حرمتهم بالقتل فيه . { فمن اعتدى عليكم } بالقتال في الأشهر الحُرُم ، أو في الحرَم { فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ، واتقوا الله } فلا تنتصروا لنفوسكم ، { واعلموا أن الله مع المتقين } بالحفظ والتأييد . { وأنفقوا في سبيل الله } في جهاد عدوكم ، ولا تمسكوا عن الإنفاق فيه فتلقوا { بإيديكم } أي : بأنفسكم { إلى التهلكة } أي : الهلكة فيستولي عليكم عدوكم . رُوِيَ عن أبي أيوب الأنصاري أنه كان على القسطنطينية ، فحمل رجل على عسكر العدو ، فقال قوم : ألقى بيده إلى التهلكة ، فقال أبو أيوب : لا ، إن هذه الآية نزلت في الأنصار ، قالوا - لما أعز الله الإسلام وكثرب أهله - : لو رجعنا إلى أهلينا وأموالنا نقيم فيها ونصلحها ، فأنزل الله فينا { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } ، وأما هذا فهو الذي قال فيه الله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ } [ البقرة : 207 ] أو : ولا تنفقوا كل أموالكم فتتعرضوا للهلكة ، أو الطمع في الخلق ، ولكن القصد ، وهو الوسط . { وأحسنوا } بالتفضل على المحاويج والمجاهدين : { إن الله يحب المحسنين } فيحفظهم ، ويحفظ عقبهم إلى يوم القيامة . الإشارة : أعلم أن أعداء الإنسان التي تقطعه عن حضرة ربه أربعة : النفس والشيطان والدنيا والناس . فمجاهدة النفس : بمخالفة هواها ، وتحميلها ما يَثقُل عليها حتى ترتاض ، ومجاهدة الشيطان : بعصيانه ، والاشتغال بالله عنه ، فإنه يذوب بذكر الله ، ومجاهدة الدنيا : بالزهد فيها ، والقناعة بما تيسر منها ، ومجاهدة الناس : بالغيبة عنهم والإعراض عنهم في الإقبال والإدبار . فيقول الحقّ جلّ جلاله للمتوجهين إليه : { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } ويصدونكم عن حضرته ، ولا تعتدوا فتشتغلوا بهم عن ذكري ، والإقبال عليّ ، { إن الله لا يحب المعتدين } . بل اقتلوهم حيث تعرضوا لكم فقط ، فإذا ظهرت صورة النفس أدبها ، ثم غاب في الله عنها ، وكذلك بقية القواطع . وكان شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه يقول : عداوة العدو حقّاً هي اشتغالك بمحبة الحبيب حقّاً ، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو فاتتك محبة الحبيب ، ونال العدو مراده منك . هـ . وأخرجوهم من قلوبكم من حيث أخرجوكم من حضرة ربكم ، يعني : كما أخرجوكم من الحضرة في أيام الغفلة ، أخرجوهم من قلوبكم في أيام اليقظة . والفتنة بالاشتغال بهم أشد من القتل لهم ، ولا تقاتلوهم عند مسجد الحضرة وحال الغيبة في الله ، فإن ذلك التفات إلى غير الله ، كمن كان مقبلاً عليه حبيبه فجعل يلتفت إلى مَن يكلمه ويشغله عنه . وذلك في غاية الجفاء ، حتى يقاتلوكم فيه ، ويريدون أن يخرجوكم منه بوسوستهم ، فإن قاتلوكم ، وخطر على بالكم شيء من وسوستهم ، فاقتلوهم بذكر الله ، والتعوّذ منهم ، فإن الله يكفيكم أمرهم ، وينهزمون عنكم ، كذلك جزاء الكافرين . فإن انتهوا عنكم ، وانقطع عنكم خواطرهم ، فغيبوا عنهم فإن الله يستركم عنهم ، وقاتلوهم على الدوام حتى لا تكون في قلوبكم فتنة منهم ، ويكون التوجه كله لله ، لا ينازعه شيء مما سواه ، فإن انتهوا عنكم فلا تتعرضوا لهم فإن ذلك عدوان وظلم ، { فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ } [ البقرة : 193 ] . فإن جَنَحَتْ نفسُك إلى حرمة الطاعة الظاهرة كتدريس علم أو جهاد أو غيرها ، وأرادت أن تخرجك من حرمة الحضرة القدسية وهي الفكرة والشهود والمعاينة ، فقاتلها وأخرجها من حرمة تلك الطاعة ، فالحرمات قصاص . فكما أخرجتك من حضرة ربك القدسية أخرِجْها من حضرة الطاعة الحسية إلى الطاعة القلبية . فإن الذَّرَّةَ من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح . فمَن اعتدى عليكم ، في زمن البطالة ، فاعتدوا عليه في زمن اليقظة بمثل ما اعتدى عليكم . وكان شيخنا البوزيدي رضي الله عنه يقول : جوروا على نفوسكم بقدر ما جارت عليكم هـ . أي : اقتلوها بقدر ما قتلتكم بالبعد عن ربكم . وكان أيضاً يقول : جوروا على الوهم قل أن يجور عليكم . هـ . واتقوا الله فإن الله يعينكم عليها ، { واعلموا أن الله مع المتقين } . وأنفقوا أنفسكم ومهجكم في سبيل الله ، بأن تطرحوها في يد الله يفعل بها ما يشاء . { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } فتدبروا لها ، وتختاروا لها ، وتعتنوا بشؤونها ، فإن ذلك غفلة عن ربكم . { وأحسنوا } أي : ادخلوا في مقام الإحسان بأن تعبدوا لله كأنكم ترونه { إن الله يحب المحسنين } أي : يقربهم إلى حضرته ، ويصطفيهم إلى محبته ومعرفته ، خرطنا الله في سلكهم بمنِّه وكرمه .