Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 212-212)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { زُين } مبني للمفعول ، والفاعل هو الله ، إذ لا فاعل سواه . يقول الحقّ جلّ جلاله : { زيّن للذين كفروا } من اهل الكتاب وغيرهم ، { الحياة الدنيا } أي : حُسِّنَتْ في أعينهم ، وأُشربت محبتها في قلوبهم ، حتى تهالكوا عليها ، واعرضوا عن غيرها ، فلم تتفرغ قلوبهم للتفكر والاعتبار ، ولم تستمع آذانهم للوعظ والتذكار ، بل أعمتهم ، وأصمّتهم ، وقصروا عليها همتهم ، حتى جعلوا يسخرون ممن أعرض عنها ، كفقراء المسلمين وأهل الصفة ، فكانوا يستهزئون بهم ، حيث رفضوا الدنيا وأقبلوا على الله ، فرفعهم الله في أعلى عليين ، وخفض الكفار في أسفل سافلين . فهم يسخرون منهم في دار الدنيا { والذين اتقَوْا فوقَهم يومَ القيامة } لأنهم في عليين ، والآخرين في أسفل سافلين . أو لأنهم في كرامة ، والآخرون في مذلة . أو لأنهم يسخرون منهم يوم القيامة كما سخروا منهم في الدنيا . وعبَّر بالتقوى لأنها سبب رفعهم واستعلائهم . وأما استهزاؤهم بهم لأجل فقرهم ، فإن الفقر شرف للعبد ، والبسط في الدنيا على شرفه فقد يكون استدراجاً ، وقد يكون عوناً ، فالله { يرزق مَن يشاء بغير حساب } ، أي : بغير تقدير ، فيوسع في الدنيا استدراجاً وابتلاء ، ويقتر على مَي يشاء اختباراً وتمحيصاً ، { لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُون } [ الأنبيَاء : 23 ] . الإشارة : اعلم أن عمل أهل الباطن كله باطني قلبي ، بين تفكر واعتبار ، وشهور واستبصار ، أو نقول : بين فكرة ونظرة وعكوف في الحضرة ، فلا يظهرون من أعمالهم إلا المهم من الواجبات ، ولذلك قال بعضهم : إذا وصل العمل إلى القلوب استراحت الجوارح ، ومعلوم أن الذرة من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح لأن أعمال القلوب خفية ، لا يطلع عليها ملك فيكتبها ، ولا شيطان فيفسدها ، الإخلاص فيها محقق . وأيضاً : " تفكر ساعة أفضل من عبادة ستين سنة " . " وسئل - عليه الصلاة والسلام - : أيُّ الأَعْمَال أَفْضَلُ ؟ قال : العلْمُ بالله . قيلَ : يا رسُولَ الله سَأَلْنَاكَ عن العَمَل ؟ فقال : العلمُ بالله ثم قال صلى الله عليه وسلم : إذا حَصَلَ العلمُ بالله كَفَى قلِيلُ العَملِ " أو كما قال عليه الصلاة والسلام ، " فلما خفيت أعمال أهل الباطن سخر منهم أهل الظاهر ، واستصغروا شأنهم حيث لم يروا عليهم من الأعمال ما رأوا على العُبَّاد والزُهاد . والذين اتقوا شهود ما سوى الله ، أو كل ما يشغل عن الله ، فوقهم يوم القيامة لأنهم من المقربين وغيرهم من عوام المسلمين ، والله يرزق من يشاء في الدارين بغير حساب ، أي : بغير تقدير ولا حصر ، فيرزق العلوم ، ويفتح مخازن الفهوم على مَن توجه إلى مولاه ، وفرغ قلبه مما سواه " وبالله التوفيق .