Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 219-220)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا … } قلت : الخمر في اللغة : ما يستر الشيء ويغطيه ، ومنه : خمار المرأة ، وسُمِّي الخمر خمراً لستره العقلَ . وفي الاصطلاح : ما غَيّب العقل دون الحواس مع النَّشْوة والطرَب . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كُلُّ مُسْكرٍ خَمْرٍ وكُلُّ خَمْر ، حَرَامٌ " . والميسر : قال ابن عباس والحسن : كل قمار ميسر ، من شطرنج ونرْد ونحوه ، حتى لَعِب الصبيان بالجَوْز والكِعَاب ، إذا كان بالفُلوس ، وسمي ميسراً ليُسْر صاحبه بالمال الذي يأخذه ، وأما إذا كان بغير عِوض ، إنما هو لَعِبٍّ فقط ، فلا بأس . قاله ابن عرفة . يقول الحقّ جلّ جلاله : { يسألونك عن } حكم { الخمر والميسر قل } لهم : { فيهما إثم كبير } أي : عظيم لما في المسير من أكل أموال الناس بالباطل ، وما ينشأ عنه من العداوة والشحناء ، وما في الخمر من إذهاب العقل والسباب والافتراء والإذاية ، والتعدّي الذي يكون من شاربه . وقرأ حمزة والكسائي : { كثير } بالمثلثة ، أي : آثام كثيرة لقوله عليه الصلاة والسلام : " لَعَنَ اللّهُ الخَمْرَ ، وَبَائِعِهَا ، وَمُبْتَاعَهَا ، والمُشتَرَاة لَهُ ، وعَاصَرَهَا ، والمَعْصُورَةَ لَه ، وسَاقِيها ، وشَاربهَا ، وحَامِلهَا ، والْمْحمُولة لَهُ ، وآكل ثَمِنِها " فهذه آثام ، وفيها { منافعٍ للناس } أي : منافع دنيوية ككسب المال بلا تعب ، وإطعام الفقراء من كسبه ، كما كانت تصنع العرب في الميسر ، وفي الخمر اللذة والنشوة ، كما قال حسان رضي الله عنه : @ ونَشْرَبُها فَتَتْرُكنا مُلوكاً وأُسداً لا يُنهْنِهُنا اللقَاءُ @@ { وإثمهما أكثر من نفعهما } لأن منفعتهما دنيوية ، وعقوبة إثمهما أُخروية ، وهذه الآية نزلت قبل التحريم . رُويَ أنه لما نزل بمكة قوله تعالى : { وَمِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقًاً حَسَناً } [ النّحل : 67 ] ، أخذ المسلمون يشربونها ، ثم إن عمرَ ومعاذاً في نفر من الصحابة ، قالوا : أفْتنا يا رسول الله في الخمر فإنها مُذهبة للعقل ، فنزلت هذه الآية ، فشربها قوم وتركها آخرون ، ثم دعا عبدُ الرحمن بن عوف ناساً إلى داره ، فشربوا وسكروا ، ثم قام يصلي بهم فقرأ : { قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } [ الكافِرون : 1 ، 2 ] من غير نفي ، فنزلت : { … لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى … } [ النِّساء : 43 ] فاجتنبُوها في أوقات الصلاة . ثم دعا عتبانُ بنُ مالك سعدَ بن أبي وقاص في جماعة ، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا ، فأنشد سعدُ شعراً فيه هجاء الأنصار ، فضربه أنصاري بلحى بعير فشجَّه ، فشكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر : اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً . فنزلت { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ … } إلى قوله : { … فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } [ المَائدة : 90 ، 91 ] فقال عمر : انتهينا يا رب هـ . ولما شربها بعض الناس بعد التحريم ، كان - عليه الصلاة والسلام - يضرب فيها بالنعال والجريد ، ضرباً غير محدود ، وضرب أبو بكر وعمر أربعين ، وأول من حد فيها ثمانين سيدنا عثمان ، لما تهافت الناس فيها . والله تعالى أعلم . الإشارة : اعلم أن الحق تعالى جعل للعقل نوراً يُميز بين الحق والباطل ، بين الضار والنافع ، وبين الصانع والمصنوع ، ثم إن هذا النور قد يتغطى بالظلمة الطينية وهي نشوة الخمر الحسية . وقد يتغطى أيضاً بالأنوار الباهرة من الحضرة الأزلية إذا فاجأته ، فيغيب عن الإحساس في مشاهدة الأنوار المعنوية ، وهي أسرار الذات الأزلية ، فلا يرى إلا أسرار المعاني القديمة ، وينكر الحوادث الحسية ، فسمي الصوفية هذه الغيبة خمرة لمشاركتها للخمر في غيبوبة العقل ، وتغنوا بها في أشعارهم ومواجيدهم ، قال الفارض رضي الله عنه : @ شَرِبْنَا على ذِكْر الحبيبِ مُدامَةً سَكرنَا بها من قبل أن يُخلَقَ الكَرْمُ @@ ثم قال : @ على نفسه فَليبْكِ مَن ضاع عُمْرُه وليسَ لهُ منها نَصِيبٌ ولا سَهْمُ @@ وقلت في عينيتي : @ وَلِي لَوْعَةٌ بالرَّاحِ إِذْ فِيه رَاحِتِي وَرَوْحِي ورَيْحَانِي ، وخيرٌ واسِعُ سَكرْنَا فهِمْنَا في بَهاءِ جَمَالِه فَغِبْنا عَن الإحساسِ ، والنُورُ ساطعُ @@ والميسر في طريق الإشارة : هو الغني الذي يحصل بهذه الخمرة ، وهو الغني بالله عن كل ما سواه قل فيهما إثم كبير أي : في تعاطيهما حرج كبير ، ومنافع للناس بعد تعاطيهما ، فيهما إثم كبير عند طالب الأجور ، ومنافع للناس لمن طلب الحضور ورفع الستور . وأنشدوا : @ لَوْ كَان لي مُسْعدٌ يُسعِدُني لمَا انتظرتُ لشُربِ الراحِ إفطارا فالراحُ شيءٌ شَريفٌ أنتَ شَاربُه ، فاشْرَب ، ولو حَمَّلَتْكَ الراحُ أوْزارا يا مَنْ يلومُ على صَهْبَاءَ صافيةٍ خُذ الجِنَانَ ، ودَعْنِي أَسكنُ النَارا @@ وقال ابن الفارض : @ وقالُوا : شَرِبْتَ الإثَم ! كلاّ ، وإنما شرِبْتُ التي في ترْكِها عنديَ الإثْمُ @@ وقال آخر : @ طابَ شُرْبُ المُدامِ في الخَلَواتْ اسْقِني يا نديمُ بالآنِيَاتْ خْمْرَةٌ تركُها علينا حرَامٌ ، ليسَ فيها إثمٌ ولا شُبُهَاتْ عُتِّقَتْ في الدَّنان مِنْ قَبْلِ آدمْ أصلُها طيّبٌ من الطَّيِّبَاتْ أَفْتِ لي أيُّهَأ الفقيهُ وقلْ لي : هل يجوزُ شُرْبُها على عَرَفاتْ ؟ @@ فيهما إثم كبير عند أهل الحجاب ، ونفع كبير عند ذوي الألباب ، يعني : في الخمرة الأزلية والغنى بالله ، وقوله تعالى : { وإثمهما أكبر من نفعهما } : خطاب على قدر ما يفهم الناس ، لأن إثمهما ظاهر للعوام ، وهو ما يظهر على النشوان من خراب الظاهر ، وصدور الأحوال الغريبة ، ونفعهما خاص عند خوصا الخواص ، لا يفهمه إلا الخواص ، بل يجب كتمه عن غير أهله ، وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق . ثم وقع سؤال ثالث عن قدر المنفق ، فأشار إليه الحقّ جلّ جلاله بقوله : { … وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ كَذٰلِكَ يُبيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ … } قلت : { العفو } : ضد الجهد ، وهو السهل ، ويقال للأرض السهلة : عفو ، والمراد : أن يُنفق ما تيسر بذله ، ولا يبلغ به الجَهد ، وهو خبر ، أو مفعول ، أي : هو العفو ، أو ينفقون العفو . يقول الحقّ جلّ جلاله : { ويسألونك } ما القدر الذي ينفقونه ؟ { قل } لهم : هو { العفو } أي : السهل الذي لا مشقة في إعطائه ، ولا ضرر على المعطي في فقده ، رُوِي أن رجلاً أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بقدر بَيْضة من الذهب ، فقال : خُذها عني صَدقَة ، فأعرض عنه ، حتى كَرَّر مِرَاراً ، فقال : هاتها ، مُغْضَبَا ، فحذفها حذفاً لو أصابه لشجَّه ، فقال : " يأتي أحدكم بماله كله يتصدّق به ، ويجلس يتكفَّفُ الناس ، إنما الصدقةُ عن ظَهْرِ غِنَى " قاله البيضاوي مختصراً . قلت : وهذا يختلف باختلاف اليقين فقد تصدّق الصدِّيقُ رضي الله عنه بماله كله ، وعمر رضي الله عنه بنصف ماله ، فأقرهما ورَدّ فعلَ غيرهما ، فدلَّ ذلك على أن العفو يختلف باختلاف الأشخاص ، على حسب اليقين . { كذلك يبن الله لكم الآيات } أي : مثل هذا التبيين الذي ذكرنا ، { يُبين } لكم الآيات ، حتى لا يترك إشكالاً ولا وهماً ، { لعلكم تتفكرون } بعقولكم ، وتأخذون بما يعود نفعه عليهكم ، فتتفكرون { في الدنيا } وسرعة ذهابها وتقلبها بأهلها ، إذا أقبلت كانت فتنة ، وإذا أدبرت كانت حسرة ، لا يفي طالبُها بمقصوده منها ولو ملكها بحذافيرها ، ضيقة الزمان والمكان ، عمارتها إلى الخراب ، وشأنها إلى انقلاب ، سريعة الزوال ، وشيكة الانتقال ، فتزهدون فيها وترفعون همتكم عنها . وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " مَالِي وللدنيا ، إنما مَثَلي ومثلُ الدنيا كرجلٍ سَافَرَ في يوم صَائِفٍ ، فاسْتَظَلَّ تحت شَجَرةٍ ، ثم رَاحَ وَتَرَكَها " وفي صحف إبراهيم عليه السلام : " عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ، عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك ، عجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب - أي : يتعب - عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها " . وأنشدوا : @ ألا إنَّما الدنيا كأحْلاَمِ نَائِم وكُلُّ نعيمٍ ليسَ فيها بِدَائِم تَذَكَّرْ إذا ما نِلْتَ بالأمس لَذَّةً فأفْنَيْتَها هل أنتَ إلا كَحَالِمِ @@ وتتفكرون في { الآخرة } ودوام نعيمها ، وسعة فضائها ، وبهجة منظرها فترغبون في الوصول إليه ، وتتأهبون للقائها ، فتؤثرونها على هذه الدار الفانية . قال بعض الحكماء : لو كانت الدنيا من ذهب يفنى ، والآخرة من طين يبقى ، لكان ينبغي للعاقل أن يختار ما يبقى على ما يفنى ، لا سيما والأمر بالعكس ، الدنيا من طين يفنى ، والآخرة من ذهب يبقى ، فلا يختار هذه الدار إلاَّ أحمق خسيس الهمة ، وبالله التوفيق . الإشارة : كما نهى الحقّ جلّ جلاله عن السرف في الأموال ، نهى عن السرف في الأحوال ، فالسرف ، من حيث هو ، يؤدي إلى الملل والانقطاع ، " أحبُ العملِ إلى اللّهِ ما دَامَ عليه صاحبُه ، وإنْ قَلَ " كما في الحديث ، " والله ما رأينا أحداً أسرف في الأحوال إلا مَلَّ ، وضعف حاله " ، وفي الحديث : " لاَ يكْن أحَدُكُم كالمُنْبَتِّ - أي : المنقطع - لا أرضاً قطع ، ولا ظَهْراً أبقى " وقال في المباحث : @ فاحْتلْ على النفس فَرُبَّ حِيله أنفعُ في النُّصْرة مِن قَبِيله @@ فلا يزال يُسايس نفسه شيئاً فشيئاً حتى يملكها ، ويظفر بها ، فإذا ظفر بها كانت له شبكة يصطاد بها العلوم والمعارف ، فتتفكر في الدنيا فتراها فانية فترحل عنها ، ثم تتفكر في الآخرة فتراها باقية ، فإذا رامت السُّكْنَى فيها رأتْها كَوْناً مخلوقاً فرحلت إلى خالقها ، فكشف الحقّ عنها الحجاب ، وأدخلها مع الأحباب ، وأدخلها مع الأحباب ، فغابت عن الكونين في شهود المكون ، فلم يبق لها دنيا ولا آخرة ، بل هي الآن في بهجة ونضرة { إلى ربها ناظرة } ، حققنا الله بهذا المقام العلي . آمين . ثم سألوا أيضاً عن مخالطة اليتامى ، فأجابهم الحقّ تعالى بقوله : { … وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } قلت : العنت : التعب والمشقة ، أعنتكم : أتعبكم . يقول الحقّ جلّ جلاله : { ويسألونك عن } مخالطة { اليتامى } أي : خَلْط مال اليتامى بمال الوصيّ ، أو القائم به ، فيأكلون جميعاً ، { قل } لهم : يفعلون ما هو { إصلاح } لليتيم وأحفظ لماله ، فإنْ كان خلط مال اليتيم مع مال الوصي أحفظُ لماله ، وأوفر ، فهو خير ، فإنما هم إخوانكم في الدين ، وإن كان عزلُ ما لهم عن مالكم ، وأكله وحده ، اوفر لماله ، فاعتزالهم خير ، { والله يعلم } من قصدُه الإفساد ، ممن قصده الإصلاح ، فيعامل كل واحد بقصده ، { ولو شاء الله } لأمركم بعزلهم وحفظ مالهم مطلقاً ، فيُحرجكم ، ويشق عليكم ، { إن الله عزيز } غالب ، لا يعجزه شيء ، { حكيم } لا يفعل شيئاً إلا لحكمة ومصلحة . ولما نزل قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً … } [ النِّساء : 10 ] الآية ، تحرَّج الصحابة من مخالطة اليتامى ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت الآية . الإشارة : كل من لا شيخ له في طريق القوم فهو يتيم ، لا أبَ له ، فإن ادعى شيئاً من الخصوصية سُمي عندهم لقيطاً أو دعياً ، أي منسوباً إلى غير أبيه ، وما زالت الأشياخ تُحذِّر من مخالطة العوام ، ومن مخالطة المتفقرة الجاهلة ، أعني : الذين لا شيخ لهم يصلح للتربية ، حتى قالوا : مخالطتهم سُم قاتل . وقال بعضهم : يجتنب المريد مخالطة ثلاثة أصناف من الناس : المتفقرة الجاهلين ، والقراء المداهنين ، والجبابرة المتكبرين . قلت : وكذلك الفروعية المتجمدين على ظاهر الشريعة ، فصُحبتهم أقبحُ من الجميع ، ومن ابتلى بمخالطة العوام فلينصحهم ، ويرشدهم إلى مصالح دينهم ، إنما هم إخوان في الدين ، والله يعلم المفسد من المصلح ، فمن خالطهم طمعاً في مالهم أو جاههم ، أفسده الله ، ومن خالطهم نُصحاً وإرشاداً أصلحه الله ، ولو شاء الله لأمر الفقراء باعتزالهم بالكلية ، وفي ذلك حرج ومشقة ، ومِنْ حكمته تعالى أن جعلهم حجاباً لأهل الحجاب ، ومدخلاً لذوي الألباب ، حجاباً للضعفاء ، ومدخلاً ومشهداً للأقوياء . والله تعالى أعلم . ولمّا فرغ الحق جلّ جلاله من ذكر بعضَ أمر الجهاد وما يتعلق به ، شَرَع يتكلم على النكاح .