Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 249-249)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : قال في القاموس : غَرَفَ الماء يِغْرُفُه : أخذ بيده ، كاغْتَرَفه ، والغَرْفَةُ للمَرَّة ، وبالكسر : هيئة الغرف وبالضام : اسم للمفعول ، كالغرافة ، لأنك ما لم تغرفه لا تسميه غُرْفَة ، ثم قال : والغُرْفَةُ ، بالضم : العُلِّيَّة . يقول الحقّ جلّ جلاله : ولما اتفقوا على مُلك طالوت تجهز للخروج ، وقال : لا يخرج معه إلا الشبابُ النشيط الفارغُ ليس وراءه غُلْقة ، فاجتمع ممن اختار ثمانون ألفاً ، وقي : ثلاثون ، فلما انفصل عن بلده بالجنود وساروا في البيداء - وكان وقت الحرِّ والقيّظ - عطشوا ، وسألوا طالوتَ أن يُجري لهم نهراً ، فقال لهم بوحْي ، أو بإلهام ، أو بأمر نبيهم : { إن الله مبتليكم } أي : مُختبركم { بنهر } بسبب اقتراحكم ، { فمن شرب منه } كَرْعاً بلا واسطة { فليس مني } أي : من جيشي ، { ومن لم يطعمه } أي : يَذْقه ، { فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده } فإنها تكفيه لنفسه ولفرسه ، فالاستثناء من الجملة الأولى . { فشربوا منه } أي : كَرعُوا ، وسقطوا على وجوههم ، { إلا قليلاً منهم } ثلاثُمائةٍ وأربعةَ عشر ، على عدد أهل بدر ، وقيل : ألفاً . رُوِيَ أن من اقتصر على الغَرفة كَفَتْه لشربه ودوابه ، ومن لم يقتصر غلب عطشُه ، واسودَّتْ شفتُه ولم يقدْر أن يمضيَ . وعن ابن عباس : أن القومَ شربوا على قدر يقينهم : فالكفار شربوا شُربَ الهيم ، وشَرِب العاصي دون ذلك ، وانصرف من القوم ستةٌ وسبعون ألفاً ، وبقي بعضُ المؤمنين لم يشرب شيئاً ، وأخذ بعضهم الغَرفة ، فأما من شرب فاشتد به العطشُ وسقط ، وأما من ترك الماءَ فحسن حالُه ، وكان أجلَد ممن أخذ الغرفة . هـ . وحكمة هذ الامتحان : ليتخلص للجهاد المطيعون المخلصون ، إذ لا يقع النصر إلاَّ بهم ، فلما جاوز النهرَ طالوتُ ومن بقيَ معه ممن لم يشربْ قال بعضهم لبعض : { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } لكثرتهم وقلة عددنا ، { قال الذين يظنون } أي : يَتَيَقَّنْون { أنهم ملاقوا الله } ويتوقعون ثوابَ الشهادة وهم الخُلْصُ من أهل البصيرة : لا تفزعوا من كثرة عددهم { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } وإرادته ومعونته ، و { كم } للتكثير ، { والله مع الصابرين } بالنصر والمعونة . الإشارة : قال بعض الحكماء : الدنيا كنهر طالوت ، لا ينجو منها إلا من لم يشربْ أو اغترف غرفةً بيده ، فمن أخذ منها قَدْرَ الضرورةِ كَفَتْه ، ونَشَطَ لعبادة مولاه ، ومن أخذ فوق الحاجة حُبس في سجنها ، وكان أسيراً في يدها . وقال بعضهم : طالبُ الدنيا كشارب ماءِ البحر ، كلما زاد شربه ازداد عطشه . هـ . وقال صلى الله عليه وسلم : " من أُشرب قلبه حُبَ الدنيا التاط منها بثلاث : بشغل لا ينفد عناه ، وأمل لا يبلغ منتهاه ، وحرص لا يدرك مداه " وقال عيسى عليه السلام : الدنيا مزرعة لإبليس ، وأهلها حراث له هـ . وقال عليّ رضي الله عنه : الدنيا كالحية : لَيِّن مسها ، قاتل سمها ، فكن أحذر ما تكونُ منها ، أَسَرَّ ما تكون بها فإن من سكن منها إلى إيناس أزاله عنها إيحاش . وقال عليه الصلاة والسلام : " مِنْ هوان الدنيا على الله أنه لا يُعصى إلا فيها ، ولا ينال ما عنده إلا بتركها " وقال سيدنا عليّ - كرّم الله وجهه - : أول الدنيا عناء ، وآخرها فناء ، حلالها حساب ، وحرامها عقاب ، ومتشابهها عتاب ، من استغنى فيها فُتن ، ومن افتقر فيها حزن . هـ . وقيل : الدنيا تُقبل إقبال الطالب ، وتُدبر إدبار الهارب ، وتصل وصال الملول ، وتُفارق فراق العجول ، خيرها يسير ، وعمرها قصير ، ولذاتها فانية ، وتبعاتها باقية . وقال عيسى عليه السلام : تعملون للدنيا ، وأنتم تُرزقون فيها بغير عمل ، ولا تعملون للآخرة ، وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل . هـ . وقيل : أوحى الله إلى الدنيا : مَنْ خدَمني فاخدِميه ، ومن خدمك فاستخدِميه . وكان عمرُ بنُ عبد العزيز يتمثل بهذه الأبيات : @ نهارُكَ مغرورُ سهوٌ وغفلةٌ وليلُكَ نومٌ ، والأسَى لك لازمٌ تُسَرُّ بما يفْنَى ، وتفرحُ بالمُنَى كما سُرَّ باللذَّات في النومِ حالمُ وشغلُك فيها سوف تكرَه غَبَّه كذلك في الدنيا تَعيِشُ البهائمُ @@ وقال آخر :