Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 259-259)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { أو } عاطفة ، و { كالذي } : معطوف على الموصول المجرور بإلى ، أي : ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ، وإلى مثل الذي مرّ على قرية . وإنما أدخل حرف التشبيه لأن المُنكر للإحياء كثيرٌ ، والجاهل بكيفيته أكثر ، بخلاف مدعي الربوبية فإنه قليل . وقيل : الكاف مزيدة ، والتقدير : ألم تر إلى الذي حاج وإلى الذي مرَّ ، و { أنَّى } : ظرف ليُحيي ، بمعنى : متى ، أو حال بمعنى كيف ، و { يتسنه } بمعنى يتغير ، وأصله : يتسنن ، فأبدلت النون الثالثة حرف علة . قال في الكافية : @ وثَالِثَ الأمثَالِ أبدِلَنْه يا نحو تَظَنَّى خالدٌ تَظَنِّيَا @@ فصار تَسَنَّى ثم حُذفت للجازم ، وأتى بهاء السَّكْت ، وقفا ووصل ، كالعِوض من المحذوف ، وقيل : من السَّنة ، وهو التغير ، فالهاء أصلية ، و { لنجعلنك } : معطوف على محذوف ، أي : لتعتبر ولنجعلك آية للناس . يقول الحقّ جلّ جلاله : ألم تر يا محمد أيضاً إلى مثل الذي { مرَّ على قرية } ، وهو عُزَير ، حَبْرُ بني إسرائيل - وقيل : غيره - مرَّ على بيت المقدس حين خربها بُختنصر { وهي خاوية } ساقطة حيطانها { على عروشها } أي : سقفها ، وذلك بعد مائة سنة حتى سقطت العروش ، ثم سقطت الحيطان عليها ، فلما رآها خالية ، وعظام الموتى فيها بالية ، { قال } في نفسه : { أنَّى يحيي هذ الله بعد موتها } أي : متى يقع هذا . اعترافاً بالقصور عن معرفة طريق الإحياء ، واستعظاماً لقدرة المحيي ، إن كان القائل عزيراً ، أو استبعاداً إن كان كافراً ، { فأماته الله مائة عام } أي : ألبثه ميتاً مائة عام ، { ثم بعثه } بالإحياء ، فقال له على لسان الملك ، أو بلا واسطة : { كم لبثت } ميتاً ؟ { قال لبثت يوماً أو بعض يوم } ، وذلك أنه مات ضحى وبعث بعد مائة عام قبل غروب الشمس ، فقال قبل النظر إلى الشمس { يوماً } ، ثم التفت فرأى بقية منها ، فقال : { أو بعض يوم } على الإضراب ، قال له الحقّ جلّ جلاله : { بل لبثت مائة عام } . وذلك أن عزيراً ذهب ليخترف لأهله فجعل على حماره سَلة عنب وجَرَّة عصير . فلما مرَّ بتلك القرية ربط حماره ، وجعل يتعجب من خرابها وخلائها بعد عمارتها ، فقال في نفسه ما قال ، فلطف الله به ، وأراه كيفية الأحياء عياناً ، فأماته مائة عام ، حتى بليت عظام حماره وبقي العصير والعنب كأنه حين جنى وعصر فقال له جلّ جلاله : { فانظر إلى طعامك } وهو العنب ، { وشرابك } وهو العصير ، { لم يتسنه } ، أي : لم يتغير بمرور الزمان وطول المدة ، { وانظر إلى حمارك } كيف تفرقت أوصاله ، وبليت عظامه ، فعلنا ذلك بك لتشاهد قدرتنا ، { ولنجعلك آية للناس } بعدك ، { وانظر إلى العظام } أي : عظام حمارك ، { كيف ننشرها } ، أي : نحييها ، من نَشَرَ الله الموتى : أحياها . أو : { كيف ننشزها } بالزاي - أي : نرفع بعضها ، ونركبه عليه ، { ثم نكسوها لحماً } . فنظر إلى العظام ، فقام كلُّ عَظْم إلى موضعه ، ثم كسى لحماً وجلداً ، وجعل ينهق ، { فلما تبين له } ما كان استغربه وأُشكل عليه { قال أعلمُ } عليم اليقين { أن الله على كل شيء قدير } ، أو فلما تبين له الحق ، وهو قدرته تعالى على كل شيء ، قال لنفسه : { أعلمُ أن الله على كل شيء قدير } . رُوِيَ أنه أتى قومه على حماره ، وقال أنا عزير ، فكذبوه ، فقرأ التوراة من حفظه ، ولم يحفظها أحد قبله ، فعرفوه بذلك ، وقالوا : هو ابن الله - تعالى عن قولهم - وقيل : لما رجع إلى منزله - وكان شاباً - وجد أولاده شيوخاً ، فإذا حدَّثهم بحديث قالوا : حديث مائة سنة . والله تعالى أعلم . الإشارة : في هذه الآية والتي بعدها ، الإشارة إلى الأمر بتربية اليقين والترقي فيه من علم اليقين إلى عين اليقين ، فإن الروح ما دامت محجوبة بالوقوف مع الأسباب والعوائد ، وبرؤية الحس والوقوف مع الوسائط ، لم تخل من طوارق الشكوك وخواطر ، فإذا انقطعت إلى ربها ، وخرقت عوائد نفسها ، كشف لها الحق تعالى عن أستار غيبه ، وأطلعها على مكنونات سره ، وكشف لها عن أسرار الملكوت ، وأراها سنا الجبروت ، فنظرت إلى قدرة الحي الذي لا يموت ، وتمتعت بشهود الذات وأنوار الصفات ، في هذه الحياة وبعد الممات ، فحينئذٍ ينقطع عنها الشكوك والأوهام ، وتتطهر من طوارق الخواطر ، وتزول عنها الأمراض والأسقام . قال في الحكم : " كيف تُخْرَق لك العوائد وأنت لم تخرِق من نفسك العوائد " . فانظر إلى عزير … ما أراه الحق قدرته عياناً حتى خرق له عوائده فأماته ثم أحياه ، فكذلك أنت أيها المريد لا تطمع أن تخرق لك العوائد ، فتشاهد قدرة الحق أو ذاته عياناً ، حتى تموت عن حظوظك وهواك ، ثم تحيا روحك وسرك ، فحينئذٍ تشاهد أسرار ربك ، ويكشف الأستار عن عين قلبك . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق . ثم ذكر الحقّ تعالى قصة خليله عليه السلام في طلبه رؤية عين القدرة في إحياء الموتى ، ليترقى من علم اليقين إلى عين اليقين .