Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 30-33)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لمّا أراد الله تعالى عمارة الأرض ، بعد أن عمَّر السماوات بالملائكة ، أخبر الملائكة بما هو صانع من ذلك تنويهاً بآدم وتشريفاً لذريته ، وتعيماً لعباده أمر المشاورة ، فقال لهم : { إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } يخلفني في أرضي وتنفيذ أحكامي ، { قَالُوا } على وجه الاستفهام ، أو من الإدلال ، إن كان من المقربين ، بعد أن رأوا الجن قد أفسدوا وسفكوا الدماء : { أَتَجْعَلُ مَن يُفْسِدُ فِيهَا } ، وشأن الخليفة الإصلاح ، { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } ، أي : نسبح ملتبسين بحمدك ، { ونُقَدِّسُ لَكَ } ، أي : نطهر أنفسنا لأجلك ، أو ننزهك عما لا يليق بجلال قدسك ، فنحن أحق بالخلافة منهم . قال الحقّ جلّ وعلا : { إنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } فإني أعلم أنه يكون منهم رسل وأنبياء وأولياء ، ومن يكون مثلكم أو أعظم منكم ، ولما ألقى الخليل في النار ضجت الملائكة وقال : " يا رب هذا خليلك يحرق بالنار " . فقال لهم : " إن استغاث بكم فأغيثوه " . فلما رفع همَّتَه عنهم قال الحقّ تعالى : { ألم أقل لكم إني أعلم ما لا تعلمون } . ثم وَجَّهَ الحق تعالى استحقاقه للخلافة وهو تشريفه بالعلم ، فقال : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } ، أي مسميات الأسماء بأن ألقى في رُوعه ما تحتاج إليه ذريته من اللغات والحروف ، وخواص الأشياء ومنافعها ، ثم عرض تلك المسميات على الملائكة ، إظهاراً لعجزهم ، وتشريفاً لآدم بالعلم . { فقال } : أخبروني { بأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ } المسيمات { إن كنتم صادقين } في ادعائكم استحقاق الخلافة ، فلما عجزوا عن معرفة تلك الأسماء { قَالُوا سُبْحَانَكَ } أي : تنزيهاً لك عن العبث ، { لا عِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ } بكل شيء ، { الْحَكيمُ } لإتقانك كل شيء ، وهذا اعتراف منهم بالقصود والعجز ، وإشعار بأن سؤالهم كان استفهاماً وطلباً لتفسير ما أشكر عليهم ، ولم يكن اعتراضاً . يقول الحقّ جلّ جلاله : { يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِم } ، وعيِّن لهم اسم كل مسمى ، فلما أخبرهم بذلك بحيث قال مثلاً : هذا فرس وهذا جمل ، وعين ذلك لهم ، وظهرت ميزته عليهم بالعلم حتى استحق الخلافة ، قال الحقّ تعالى : { أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } أي : ما غاب ، وأعلم ما تظهرونه من قولكم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا … } الخ ، وما تكتمونه من استحقاقكم الخلافة ، وقولكم : لن يخلق الله تعالى أحداً أعلم منا لتقدمنا ، والفضل لمن صدق لا لمن سبق . قال البيضاوي : اعلم أن هذه الآيات تدل على شرف الإنسان ، ومزية العلم وفضله على العبادة ، وأنه شرط في الخلافة ، بل العمدة فيها ، وأن التعليم يصح إطلاقه عليه تعالى ، وإن لم يصح إطلاق المعلم عليه لاختصاصه بمن يحترف به ، وأن اللغات توقيفية - عملها الله بالوحي - ، وأن آدم عليه السلام أفضل من هؤلاء الملائكة لأنه أعلم منهم ، والأعلم أفضل لقوله تعالى : { هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الزُّمَر : 9 ] ، وأن الله يعلم الأشياء قبل حدوثها . هـ . باختصار . وقال في تفسير الملائكة : إنهم أجسام لطيفة قادرة على التشكل ، وهي منقسمة على قسمين : قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق والتنزه عن الاشتغال بغيره ، - وهم العليِّون ، والملائكة المقربون - وقسم يدبرون الأمر من السماء إلى الأرض على ما ثبت به القضاء وجرى به القلم الإلهي ، وهم المدبرات أمراً ، فمنهم سماوية ، ومنه أرضية . هـ . مختصراً . الإشارة : اعلم أن الروح القائمة بهذا الآدمي هي قطعة من الروح الأعظم التي هي المعاني القائمة بالأواني ، وهي آدم الأكبر والأب الأدم ، وفي ذلك يقول ابن الفارض : @ وإنِّي وإنْ كنتُ ابن آدمَ صُورةً فلِي فِيه مَعْنىً شاهدٌ بأُبوَّتِي @@ فلمّا أراد الحق تعالى أن يستخلف هذا الروح في هذه البشرية لتدبرها وتصرفها فيما أريد منها ، قالت الملائكة بلسان حالها : كيف تجعل فيها من يفسد فيها بالميل إلى الحظوظ والشهوات ، ويسفك الدماء بالغضب والحميات ، ونحن نسبحك وننزهك عما لا يليق بك ؟ رأت الملائكة ما يصدر من بعض الأرواح من الميل إلى الحضيض الأسفل ، ولم تر ما يصدر في بعضها من التصفية والترقية ، فقال لهم الحق تعالى : { إني أعلم ما لا تعلمون } فإن منها من تعرج إلى عرش الحضرة ، وتعبدني بالفكرة والنظرة ، وتستولي على الوجود بأسره ، وتنكشف لها عند ذلك أسرار الذات وأنوار الصفات وأسماء المسميات . فيقول الحق تعالى للملائكة : هل فيكم من كشف له عن هذا السر المكنون ، والاسم المصون ، فقالوا : { سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا } من علم الصفات دون أسرار الذات { إنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } يقول الحق تعالى لروح العارف التي نفذت إلى بحر وحدة الذات وتيار الصفات : أنبئهم بما غاب عنهم من أسرار الجبروت ، وأسماء الملكوت ، فلما أعلمهم بما كوشف له من الأسرار ، وانفق له من الأنوار ، أقروا بشرف الآدمي ، وسجدوا لطلعة آدم عليه السلام فقال الحق لهم : { أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } ؟ أي : ما غاب في سماء الأرواح من الأسرار وفي أرض النفوس من الأنوار ، وأعلم ما تظهرونه من الانقياد ، وما تكتمونه من الاعتقاد ، والله تعالى أعلم . ولما تبينّ شرف آدم عليه السلام وبان فضله أمرهم بالسجود له .