Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 3-3)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : هذه الأوصاف تتضمن ثلاثة أعمال ، الأول : عمل قلبي وهو الإيمان ، والثاني : عمل بدني ، وهو الصلاة ، والثالث : عمل مالي ، وهو الإنفاق في سبيل الله ، وهذه الأعمال هي أساس التقوى التي تدور عليها . أما العمل القلبي : فهو الإيمان أولاً ، والمعرفة ثانياً ، فما دام العبد محجوباً بشهود نفسه ، محصوراً في الأكوان وفي هيكل ذاته فهو مؤمن بالغيب ، يؤمن بوجود الحق تعالى ، وبما أخبر به من أمور الغيب ، يستدل بوجود أثره عليه ، فإذا فني عن نفسه وتلطفت دائرة حسه ، وخرجت فكرته عن دائرة الأكوان ، أفضى إلى الشهود والعيان ، فصار الغيب عنده شهادة ، والملك ملكوتاً ، والمستقبل حالاً ، والآتي واقعاً ، وقد قلت ذلك : @ فَلا تَرْضى بغَيْرِ الله حِبّاً وكُنْ أبداً بعِشْقٍ واشْتِيَاقِ تَرَى الأمْرَ الْمُغَيَّبَ ذا عيَانٍ تَحْظَى بالوصُولِ وبالتَّلاَقِي @@ وفي الحكم : " لو أشرق نور اليقين في قلبك لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها ، ولرأيت بهجة الدنيا وكسوة الفناء ظاهرة عليها " وقال في التنوير : ولو انْهَتَكَ حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان ، ولأشرق نور الإيقان فغطّى وجود الأكوان . هـ . وإنما اقتصر الحق تعالى على الإيمان بالغيب لأنه هو المكلف به إذ هو الذي يطيقه جلّ العباد ، بخلاف المعرفة الخاصة فلا يطيقها إلا الخصوص ، والله تعالى أعلم . وأما العمل البدني : فهو إقامة الصلاة ، والمراد بإقامتها إتقان شروطها وأركانها وخشوعها ، وحفظ السر فيها ، قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : كل موضع ذكر فيه المصلّون في معرض المدح فإنما جاء لمن أقام الصلاة ، إما بلفظ الإقامة ، وإما بمعنى يرجع إليها ، قال تعالى { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقيمُونَ الصَّلاَةَ } ، وقال تعالى : { أَقِمِ الصَّلاَةَ } [ الإسرَاء : 78 ] ، { وَالْمُقِيمِى الصَّلاَةِ } [ الحَجّ : 35 ] ، ولما ذكر المصلّين بالغفلة قال : { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ } [ الماعون : 4 ، 5 ] ولم يقل : فويل للمقيمين الصلاة . وأما العمل المالي فهو الإنفاق في سبيل الله واجباً أو مندوباً ، وهو من أفضل القربات ، يقول الله - تبارك وتعالى : " يا ابنَ آدم أنفِقْ ، أنفقْ عليك " ، وفي حديث آخر : " أنفِقْ ولا تخَفْ مِنْ ذي العرشِ إقْلالاً " وقال صلى الله عليه وسلم : " إنّ فِي الجنَةِ غُرفاً يُرى ظَاهِرُهَا مِنْ باطنها وباطِنَها مِنْ ظَاهِرهَا " ، قيل : لِمَنْ هِي يا رسولَ الله ؟ قال : " لِمَنْ أطْعَمَ الطعَامَ ، وأفْشَى ، السلام ، وصَلى باللَّيْلِ والناسُ نِيام " وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم : " إن الله - عزّ وجلّ - ليُدْخلُ باللقمةِ مِن الخبز والقبضةِ مِن التمْر ومثله ممَّا ينتفع به المسكين ثلاثةً ، الجنةَ : رَب البيتِ الآمرَ به ، والزوجة تصلحه ، والخادمَ الذي يناولهُ المسْكِين " وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم : " إنّ الصدقةَ لتسُدُّ سَبعينَ باباً من السّوء " وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم : " صنائِع المعْرُوف تقي مَصارعَ السُّوءِ ، وصدقةُ السِّر تُطفِئ غَضَبَ الربِّ ، وصِلةُ الرَّحِم تزيدُ في العمرِ " . الإشارة : يا من غرق في بحر الذات وتيار الصفات { ذلك الكتاب } الذي تسمع من أنوار ملكوتنا ، وأسرار جبروتنا { لا ريب فيه } أنه من عندنا ، فلا تسمعه من غيرها ، { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ } [ القيامة : 18 ] ، فهو هاد لشهود ذاتنا ، ومرشد للوصول إلى حضرتنا ، لمن اتقى شهود غيرِنا ، وغرق في بحر وحدتنا ، الذي يؤمن بغيب غيبنا ، وأسرار جبروتنا ، التي لا تحيط بها العلوم ، ولا تسمو إلى نهايتها الأفكار والفهوم ، الذي جمع بين مشاهدة الربوبية ، والقيام بوظائف العبودية ، إظهاراً لسر الحكمة بعد التحقق بشهود القدرة ، فهو على صلاته دائم ، وقلبه في غيب الملكوت هائم ، ينفق مما رزقه الله من أسرار العلوم ومخازن الفهوم ، فهو دائماً ينفق من سعة علمه وأنوار فيضه ، فلا جرم أنه على بينة من ربه . ولمَّا ذكر الحق تعالى من آمن من العرب ، ذكر من آمن من أهل الكتاب .