Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 94-95)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { خالصة } خبر كان ، و { عند } متعلق بكان على الأصح . يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } يا محمد لبني إسرائيل الذين ادعوا أن الجنة خاصة بهم : { إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله } أي : في غيبه ، { خالصة } لكم { من دون } سائر { الناس } ، أو من دون المسلمين ، { فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } في اختصاصكم بهم ، فإن العبد إذا تحقق أنه صائر إليها اشتاق إلى الموت الذي يوصل إليها ، كما قال عمار رضي الله عنه عند موته : @ الآنَ ألاقِي الأحِبَّهْ مُحَمَّداً وحِزْبَه @@ وقال حذيفة رضي الله عنه حين احتضر : جَاءَ حَبِيبٌ عَلَى فَاقَة ، لاَ أَفْلَحَ مَنْ نَدِم . أي : على التمني ، أو على الدنيا . قال تعالى : { ولن يتمنوه أبداً } بسبب { ما قدمت أيديهم } من الكفر والعصيان ، فما تمناه أحد منهم قط ، قال ابن عباس : لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم في النار . وقال في الأحياء : دعا - عليه الصلاة والسلام - اليهود إلى تمني الموت ، وأخبرهم بأنهم لا يتمنونه ، فحيل بينهم وبين النطق بذلك . وذكر غيره : أن بعضهم تمناه ، فما جاءت العشاء حتى أخذته الذّبحة في حلقه فمات . { والله عليم بالظالمين } ، فيه تهديد لهم وتنبيه على أنهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم ، ونفيه عمن هو لهم . الإشارة : في هذه الآية ميزان صحيح توزن به الأعمال والأحوال ويتميز به المدعون من الأبطال ، فكل عمل يهدمه الموت فهو مدخول ، وكل حال يهزمه الموت فهو معلول ، وكل من فرّ من الموت ، فهو في دعواه المحبة كذاب ، فمن ادعى الخصوصية على الناس يختبر بهذه الآية . والناس في حب البقاء في الدنيا على أربعة أقسام : رجل أحب البقاء في الدنيا لاغتنام لَذَّاته ونيل شهواته ، قد طرح أخراه ، وأكبَّ على دنياه ، واتخذ إلهه هواه ، فأصمه ذلك وأعماه ، إن ذُكر له الموت فرّ عنه وشرد ، وإن وعِظَ أنِف وعَنَدَ ، عمره ينقص ، وحرصه يزيد ، وجسمه يبلى ، وأمله جديد ، وحتفه قريب ، ومطلبه بعيد ، فهذا إن لم تكن له عناية أزلية ، وسابقة أولية فيمسك عليه الإيمان ، ويختم له بالإسلام ، وإلا فقد هلك . ورجل قد أزيل عن عينه قذاها ، وأبصر نفسه وهواها ، وزجرها ونهاها ، قد شمر ليتلافى ما فات ، ونظر فيما هو آت ، وتأهب لحلول الممات ، والانتقال إلى محلة الأموات ، ومع هذا فإنه يكره الموت أن يشاهد وقائعه ، أو يرى طلائعه ، وليس يكره الموت لذاته ، ولا لأنه هَادِمْ لَذَّاتِهِ ، لكنه يخاف أن يقطعه عن الاستعداد ليوم المعاد ، ويكره أن تطوى صحيفةِ عَمَلِهِ قبل بلوغ أمله ، وأن يبادر بأجله قبل صلاح خلله ، فهو يريد البقاء في هذه الدار لقضاء هذه الأوطار ، فهذا ما أفضل حياته : وأطيب مماته ! لا يدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللّهِ كره اللّهُ لِقَاءَه " . ورجل آخر قد عرف الله تعالى بأسمائه الحسنى ، وصفاته العليا ، وشهد ما شهد من كمال الربوبية ، وجمال حضرة الألوهية ، فملأت عينه وقلبه ، وأطاشت عقله ولبّه ، فهو يحن إلى ذلك المشهد ، ويستعجل إنجاز ذلك الموعد ، قد علم أن الحياة الدنيوية حجابٌ بينه وبين محبوبة ، وسترٌ مُسدل بينه وبين مطلوبه ، فهذا من المحبين العشاق ، قد حنّ إلى الوصال والتلاق ، أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه ، فما أحسن حياته ولقاءه ! ورجل آخر قد شهد ما شاهد ذلك ، وربما زاد على ما هنالك ، لكنه فوّض الأمر إلى خالقه ، وسلّم الأمر لبارئه ، فلم يرض إلا ما رضي له ، ولم يرد إلا ما أريد به ، وما اختار إلا ما حكم به فيه ، إن أبقاه في هذه الدار أبقاه ، وإن أخذه فهو بغيته ومناه ، فهذا من العارفين المقربين . جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه . آمين .