Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 20, Ayat: 128-130)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { أفلم } الهمزة للإنكار التوبيخي ، والفاء للعطف على محذوف ، أي : أغْفَلوا فلم يهد لهم . وعدى الهداية باللام لتضمنها معنى التبيين ، والفاعل مضمونُ { كم أهلكنا } ، أي : أفلم يُبين لهم مآل أمرهم كثرة إهلاكنا للقرون الأولى ؟ وقيل : الفاعل ضمير عائد إلى الله . و { كم … } الخ : مُعلق للفعل سد مسد مفعوله . أي : أفلم يُبين الله لهم كثرة إهلاك القرون من قبلهم ؟ والأوجه : أنْ لا يُلاحظ له مفعول ، كأنه قيل : أفلم يفعل الله لهم الهداية ، ثم قيل بطريق الالتفات : كم أهلكنا … الخ بيانًا لتلك الهداية . و { مِنَ القُرون } : في محل نصب ، نعت لمفعول محذوف ، أي : قرنًا كائنًا من القرون . وجملة { يمشون } : حال من القرون ، أي : أهلكناهم وهم في حال أمن وتقلب في ديارهم ، أو من الضمير في " لهم " ، مؤكد للإنكار ، والعامل : " يهد " ، والمعنى : أفلم يهد لهم إهلاكنا للقرون السالفة ، كقوم نوح ولوط وأصحاب الأيكة ، حال كونهم ، أي : قريش - ماشين في مساكنهم إذا سافروا إلى الشام - ، و { أجل مسمى } : عطف على { كلمة } ، أو استئناف ، أي : وأجل مسمى حاصل لهم . يقول الحقّ جلّ جلاله : { أفَلَمْ يَهْدِ لهم } أي : أو لم يُبين لهم عاقبة أمرهم { كم أهلكنا قبلَهم من القرون } أي : كثرة إهلاكنا للقرون السالفة قبلهم ، وهم { يمشون في مساكنهم } إذا سافروا إلى الشام ، كأصحاب الحجر ، وثمود ، وفرعون ، وقوم لوط ، مشاهدين لآثار ديارهم خاربة ، مع علمهم بما جرى عليهم ، بسبب تكذيبهم ، فإنَّ ذلك مما يُوجب أن يهتدوا إلى الحق ، فيعتبروا ، لئلا يحل بهم مثل ما حلّ بأولئك ، أو : { أفلم يهد لهم } كثرة إهلاكنا للقرون السالفة قبلهم ، حال كونهم آمنين ، { يمشون } في ديارهم ويتقلبون في رباعهم { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [ الأعراف : 78 ] . { إِنّ في ذلك } الإهلاك الفظيع { لآياتٍ } كثيرة عظيمة واضحة الهداية ، دالة على الحق { لأُولي النُّهى } لذوي العقول الناهية عن القبائح ، التي من أقبحها ما يتعاطاه كفار مكة من الكفر بآيات الله ، والتعامي عنها ، وغير ذلك من فنون المعاصي . { ولولا كلمةٌ سبقتْ من ربك } ، وهو تأخير العذاب عن هذه الأمة إلى الآخرة لحكمة ، لعجلنا لهم الهلاك كما عجلنا لتلك القرون المهلكة ، التي يمرون عليها ولا يعتبرون ، فأصروا على الكفر والعصيان ، فلولا تلك العِدّة بتأخير العذاب { لكان لزامًا } أي : لكان عقاب جناياتهم لازمًا لهؤلاء الكفرة ، بحيث لا يتأخرون عن جناياتهم ساعة ، لزوم ما أنزل بأولئك الغابرين ، وفي التعرض لعنوان الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - تلويح بأن ذلك التأخير تشريف له صلى الله عليه وسلم ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] . واللزام : مصدر لازم ، وصف به للمبالغة ، { وأجَلٌ مسمىً } أي : لولا كلمة سبقت بتأخيرهم ، وأجل مسمى لأعمارهم أو عذابهم ، وهو يوم القيامة ، أو يوم بَدْرٍ ، لَمَا تأخر عذابهم أصلاً . وإنما فصله عما عطف عليه ، للمسارعة إلى بيان جواب " لولا " ، وللإشعار باستقلال كل منهما بنفي لزوم العذاب المعجل ، ومراعاة فواصل الآية الكريمة . { فاصبر على ما يقولون } أي : إذا كان الأمر على ما ذكرنا من أن تأخير عذابهم ليس بإهمال ، بل إمهال ، وأنه لازم لهم ألبتة . فاصبر على ما يقولون من كلمات الكفر فإن علمه صلى الله عليه وسلم بأنهم هالكون لا محالة مما يسليه ويحمله على الصبر ، أو اصبر على ما يقولون ، واشتغل بالله عنهم ، ولا تلتفت إلى هلاكهم ولا بقائهم ، فالله أدرى بهم . { وسَبِّحْ بحمدِ ربك } أي : نزّهه عما ينسبون إليه ، ما لا يليق بشأنه الرفيع ، حامدًا له على ما خصك به من الهدى ، معترفًا بأنه مولى النعم كلها . قال الورتجبي : سماع الأذى يُوجب المشقة ، فأزال عنه ما كان قد لحقه من سماع ما يقولونه بقوله : { وسبح بحمد ربك } أي : إن كان سماع ما يقولون يُوحشك ، فتسبيحنا يُروحك . هـ . أو : صَلِّ وأنت حامد لربك ، الذي يبلغك إلى كمال هدايتك ، ويرجح هذا قوله : { قبل طُلوع الشمس وقبل غُروبها } ، فإن توقيت التنزيه غير معهود ، فإنَّ المراد بقبل طلوع الشمس : صلاة الفجر ، وقبل غروبها : صلاة الظهر والعصر ، وقيل : العصر فقط . { ومن أناء الليل } أي : ساعاته { فسبِّح } أي : صَلِّ ، والمراد به المغرب والعشاء ، وآناء : جمع " إنَى " ، بالكسر والقصر ، أو " أناء " بالفتح والمد . وتقديم المجرور في قوله تعالى : { ومن آناء الليل فسبح } لاختصاصها بمزيد الفضل ، فإن القلب فيها أجمع ، والنفس إلى الاستراحة أميل ، فتكون العبادة فيها أشق ، ولذلك قال تعالى : { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } [ المُزمّل : 6 ] . { و } سبح أيضًا ، { أطراف النهار } وهو تكرير لصلاتي الفجر والمغرب إيذانًا باختصاصهما بمزيد مزية . وجمع أطراف بحسب اللفظ مع أمن اللبس ، أو يراد بأطراف النهار : الفجر والمغرب والظهر لأنها نهاية النصف الأول من النهار وبداية النصف الثاني ، أو يريد التطوع في أجزاء النهار . قلت : وإذا حملناه على التنزيه - وهو أن يقول : سبحان الله ، أو : لا إله إلاّ الله ، أو كل ما يدل على تنزيه الحق - يكون تخصيص هذه الأوقات بالذكر لشرفها . فقد وردت أحاديث في الترغيب في ذكر الله أول النهار وآخره ، وآناء الليل حين ينتبه من نومه ، بحيث يكون كلما تيقظ من نومه سبَّح الله وهلّله وكبّره ، قبل أن يعود إلى نومه . وهكذا كان أهل اليقظة من السلف الصالح . وقوله تعالى : { لعلك ترضى } أي : بما يعطيك من الثواب الجزيل ، بالتسبيح في هذه الأوقات . أو ترضى بالشفاعة في جميع الخلائق ، فتقر عينك حينئذ . وفي صحيح البخاري : " إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشمس ليس دونها سحاب ، فَإِنِ استَطَعْتُم أَلا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ غروبِها فافْعَلُوا " ، ثُم تَلا هذه الآية : { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها } ، ففيه ترجيح من فسرها بالصلاة ، وفيه إشارة إلى أن الصلاة ذكر وإقبال على الله وانقطاع إليه ، وذلك مزرعة المشاهدة والرؤية في الآخرة . وقد جاء في أهل الجنة : " أنهم يرون ربهم بكرة وعشيًا " ، هذا في حق العموم ، وأما خصوص الخصوص ، ففي كل ساعة ولحظة . والله تعالى أعلم . الإشارة : أفَلَم يَهد لأهل الإيمان والاعتبار ، وأهل الشهود والاستبصار ، كم أهلكنا قبلهم من القرون الخالية ، والأمم الماضية ، فهم يمشون في مساكنهم الدارسة ، ويُشاهدون آثارهم الدائرة ، كيف رحلوا عنها وتركوها ، واستبدلوا ما كانوا فيه من سعة القصور بضيق القبور ، وما كانوا عليه من الفُرش الممهدة بافتراش التراب وتغطية اللحود الممددة ، فيعتبروا ويتأهبوا للحوق بهم ، فقد كانوا مثلهم أو أشد منهم ، قد نما ذكرهم ، وعلا قدرهم ، وخسف بعد الكمال بدرهم . فكأنهم ما كانوا ، وعن قريب مضوا وبانوا ، وأفضوا إلى ما قدموا ، وانقادوا قهرًا ، إلى القضاء وسلموا ، ففي ذلك عِبَر وآيات لأولي النُهى . لكن القلوب القاسية لا ينفع فيها وعظ ولا تذكير ، فلولا كلمة الرحمة والحلم بتأخير العذاب ، وأجل مسمى لأعمارهم ، لعجل لهم العقاب . فاصبر ، أيها المتوجه إلى الله ، المنفرد بطاعة مولاه ، على ما يقولون ، مما يُكدر القلوب ، واشتغل بذكر ربك وتنزيهه ، مع الطلوع والغروب وآناء الليل والنهار ، حتى تغيب في حضرة علام الغيوب ، لعلك ترضى بمشاهدة المحبوب . وبالله التوفيق . ولما كان محصل الاعتبار هو صرف الهمة عن هذه الدار …