Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 20, Ayat: 17-23)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { وما } : استفهامية ، مبتدأ ، و { تلك } : خبر ، أو بالعكس ، فما : خبر ، وتلك : مبتدأ ، وهو أوفق بالجواب . و { بيمينك } : متعلق بالاستقرار حالاً ، أي : وما تلك قارةً أو مأخوذة بيمينك ، والعامل معنى الإشارة . وقيل : { تلك } : موصولة ، أي : وما التي هي بيمينك ، والاستفهام هنا : إيقاظ وتنبيه له عليه السلام على مما سيبدُو له من العجائب ، وتكرير النداء لزيادة التأنيس والتنبيه . يقول الحقّ جلّ جلاله : { وما تلك بيمينك يا موسى } ، إنما سأله ليريه عظيم ما يفعل بها من قلبها حية ، فمعنى السؤال : تقريره على أنها عصي ، ليتبين له الفرقُ بين حالها قبل قلبها وبعده ، وقيل : إنما سأله ليؤنسه وينبسط معه ، فأجابه بقوله : { هي عَصَايَ } ، نسبها لنفسه تحقيقًا لوجه كونها بيمينه ، رُوي أنها كانت عصا آدم عليه السلام ، فأعطاها له شعيب ، حين قدمه لرعي غنمه ، على ما يأتي في سورة القصص . وكان في رأسها شُعبتان ، وفي أسفلها سنان ، واسمها نبعة ، في قول مقاتل . { أتوكأ عليها } أي : أعتمد عليها إذا مشيت ، وعند الإعياء ، والوقوف على رأس قطيع الغنم ، { وأهشُّ } أي : أخبط { بها } الورق من الشجر ليسقط { على غنمي } فتأكله . وقرئ بالسين ، وهو زجر الغنم ، تقول العرب : هَس هَس ، في زجرها ، وعداه بعلى لتضمنه معنى الإقبال والتوجه . { ولِيَ فيها مآرِبُ أُخرى } أي : حاجات أخرى من هذا الباب . قال ابن عباس : كان موسى عليه السلام يحمل عليها زاده وسقاءه ، فجعلت تأتيه وتحرسه ، ويضرب بها الأرض فتخرج ما يأكل يومَه ، ويركز بها فيخرج الماء ، فإذا رفعها ذهب ، وكان يرد بها عن غنمه ونعمه الهوام بإذن الله ، وإذا ظهر له عدو حاربت وناضلت عنه ، وإذا أراد الاستسقاء من البئر أَدْلاَهَا ، فطالت على طول البئر وصارت شعبتاها كالدول فيستقي بها ، وكان يظهر على شعبتيها كالشمعتين بالليل فيستضيء بها ، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فتغصّنت غصن تلك الشجرة ، وأورقت وأثمرت . فهذه المآرب . وكأنه عليه السلام فهم أن المقصود من السؤال بيان حقيقتها ، وتفصيل منافعها بطريق الاستقصاء ، فلذلك أطنب في كلامه ، فلما بدت منها خوارق بديعة عَلِمَ أنها آية باهرة ومعجزات قاهرة ، وأيضًا : الإطناب في مناجاة الأحباب محمود . { قال } له تعالى : { ألْقِهَا يا موسى } لترى من شأنها ما لم يخطر ببالك ، قيل : إنما أُمِر بإلقائها قطعًا للسكون إليها ، لِمَا كان فيها من المآربِ ، وبالغ الحق تعالى في ذلك بقلبها حية ، حتى خاف منها ، وحين قطعه عنها ، وأخرجها من قلبه ، بالفرار منها ردها إليه بقوله : { خذها ولا تخف } { فألقاها } على الأرض { فإِذا هي حيةٌ تَسْعَى } ، رُوي أنه عليه السلام ألقاها فانقلبت حية صفراء ، في غلظ العصا ، ثم انتفخت وعظمت ، فلذلك شبهت بالجان تارة ، وبالثعبان مرة أخرى ، وعبَّر عنها هنا بالاسم العام للحالين ، وقيل : انقلبت من أول الأمر ثعبانًا ، وهو أليق بالمقام ، كما يفصح عنه قوله عزّ وجلّ : { فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } [ الأعرَاف : 107 ] ، وإنما سميت بالجان في الجلادة وسرعة المشي ، لا في صغر الجثة . وقيل : الجان عبارة عن ابتداء حالها ، والثعبان عن انتهائه . { قال } تعالى : { خُذها } يا موسى ، { ولا تخفْ } ، قال ابن عباس رضي الله عنه : انقلبت ثعبانًا ذَكَرًا ، يبتلع كل شيء من الصخر والشجر ، فلما رآه كذلك خاف ونفر ، ولحقه ما يلحق البشر عند مشاهدة الأهوال من الخوف والفزع ، إذ لا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية . { سنعيدُها سِيرَتَها الأولى } أي : سنعيدها ، بعد الأخذ ، إلى حالتها الأولى التي كانت عليها عصًا ، قيل : بلغ عليه السلام عند ذلك من الثقة وعدم الخوف إلى حيث كان يدخل يده في فمها ، ويأخذ بلَحْيَيْهَا . فلما أخذها عادت عصًا ، وحكمة قلبها وأخذها هنا ليكون معها على ثقة عند مخاصمة فرعون ، وطمأنينةٍ من أمره ، فلا يعتريه شائبة دهش ولا تزلزل . والسيرة : فعلة من السير ، يجوز بها إلى الطريقة والهيئة ، وانتصابها على نزع الخافض . ثم أراه معجزة أخرى ، فقال : { واضممْ يدكَ إِلى جناحك } أي : أدخلها تحت عضدك ، فجناح الإنسان : جنباه ، مستعار من جناح الطير ، { تخرجْ بيضاءَ } : جواب الأمر ، أي : إن أدخلتها تخرج بيضاء شعاعية ، { من غير سُوءٍ } أي : حال كونها كائنة من غير عيب بها كبرص ونحوه . رُوي أنه عليه السلام كان آدم اللون ، فأخرج يده من مدرعته بيضاء ، لها شعاع كشعاع الشمس ، تضيء حال كونها { آيةً أخرى } أي : معجزة أخرى غير العصا ، { لنُرِيَك من آياتنا الكبرى } أي : فعلنا ما فعلنا ، لنريك بعض أياتنا العظمى ، أو : لنريك الكبرى من آياتنا . قال ابن عباس : " كانت يد موسى أكبر آياته " . والله تعالى أعلم . الإشارة : يقال للفقير : وما تلك بيمينك أيها الفقير ؟ فيقول : هي دنياي أعتمد عليها في معاشي وقيام أموري ، وأُنفق منها على عيالي ، ولي فيها حوائج أخرى من الزينة والتصدق وفعل الخير ، فيقال له : ألقها من يدك أيها الفقير ، واخرج عنها ، أو أخرجها من قلبك إن تيسر ذلك مع الغيبة عنها ، فألقاها وخرج عنها ، فيلقيها ، فإذا هي حية كانت تلدغه وتسعى في هلاكه وهو لا يشعر . فلما تمكن من اليقين ، وحصل على غاية التمكين ، قيل له : خذها ولا تخف منها ، حيث رفضت الأسباب ، وعرفت مسبب الأسباب ، فاستوى عندك وجودها وعدمها ، ومنعها وإعطاؤها ، سنعيدها سيرتها الأولى ، تأخذ منها مأربك ، وتخدمك ولا تخدمها . يقول الله تعالى : " يا دنياي ، اخدمي من خدمني ، وأتعبي من خدمك " . وأما قوله تعالى : في حديث آخر مرفوعًا : " تمرري على أوليائي ولا تحلو لهم فتفتنهم عني " ، فالمراد بالمرارة : ما يصيبهم من الأهوال والأمراض وتعب الأسفار ، وإيذاء الفجار وغير ذلك . وقد يلحقهم الفقر الظاهر شرفًا لهم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " الفقر فخري وبه أفتخر " ، أو كما قال عليه السلام إن صح . وقال شيخنا البوزيدي رضي الله عنه : الحديث الأول : في الصالحين المتوجهين من أهل الظاهر ، والثاني - يعني تمرري … الخ - في الأولياء العارفين من أهل الباطن . هـ . ويقال له أيضًا - إن تجرد وألقى الدنيا من يده وقلبه - : اضمم يدَ فكرتك إلى قلبك ، تخرج بيضاء نورانية صافية ، لا تخليط فيها ولا نقص ، هي آية أخرى ، بعد آية التجريد والصبر على مشاقه . وقال في اللباب : اليد : يدَ الفكر ، والجيب : جيب الفهم ، وخروجها بيضاء بالعرفان . هـ . قال الورتجبي : أرى الله موسى من يده أكبر آية ، وذلك أنه ألبس أنوار يد قدرته يد موسى ، فكان يَدُ موسى يدَ قدرة الله ، من حيث التخلق والاتصاف ، كما في حديث : " كنت له سمعًا وبصرًا ولسانًا ويدًا " هـ . وبالله التوفيق . ثمَّ ذكر ابتداء رسالة موسى عليه السلام