Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 20, Ayat: 60-69)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { إن هذان لساحران } : مَنْ خَفَّفَ { إن } : جعلها نافية ، أو مخففة ، واللام فارقة . ومَنْ ثَقَّلها وقرأها : { هذان } بالألف ، فقيل : على لغة بلحارث بن كعب وخثعم وكنانة ، فإنهم يَلْزَمُونَ الألف رفعًا ونصبًا وجرًا ، ويُعرِبُونَها تقديرًا ، وقيل : اسمها : ضمير الشأن ، أي : إنه الأمر والشأن هاذان لهما ساحران . وقيل : " إن " بمعنى " نعم " ، لا تعمل ، وما بعدها : جملة من مبتدأ وخبر . وقالت عائشة - رضي الله عنها - : إنه خطأ من الكُتاب ، مثل قوله : { وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ } [ النِّساء : 162 ] ، { وَٱلصَّابِئُونَ } [ المائدة : 69 ] ، في المائدة ، ويرده تواتر القراءة . يقول الحقّ جلّ جلاله : { فتولَّى فرعونُ } أي : انصرف عن المجلس ، ورجع إلى وطنه ، { فجمعَ كيده } أي : حِيلَه وسَحرته ليكيد به موسى عليه السلام ، { ثم أتى } الموعد ، ومعه ما جمعه من كيده وسحرته ، وسيأتي عددهم . { قال لهم موسى } ، حيث اجتمعوا من طريق النصيحة : { ويلَكُم } أي : ألزمَكم اللهُ الويل ، إن افتريتم على الله الكذب ، { لا تفتروا على الله كذبًا } بإشراك أحد معه ، كما تعتقدون في فرعون ، أو بأن تحيلوا الباطل حقًا ، { فَيُسْحِتَكم } أي : يستأصلكم ، بسببه ، { بعذابٍ } لا يُقَادَر قدره ، وقرئ رباعيًا وثلاثيًا ، يقال : سحت وأسحت . فالثلاثي : لغة أهل الحجاز ، والرباعي : لغة بني تميم ونجد . { وقد خاب } وخسر { مَن افترى } على الله ، كائنًا من كان ، بأي وجه كان ، فيدخل الافتراء المنهي عنه دخولاً أوليًا ، أو : قد خاب فرعون المفتري على الله ، فلا تكونوا مثله في الخيبة . { فتنازعوا } أي : السحرة ، حين سمعوا كلامه عليه السلام ، { أمرَهُم } أي : في أمرهم الذي أريد منهم من مغالبته عليه السلام ، وتشاوروا وتناظروا { بينهم } في كيفية المعارضة ، وتشاجروا ، ورددوا القول في ذلك ، { وأسَرُّوا النجوى } أي : من موسى عليه السلام لئلا يقف عليه فيدافعه ، ونجواهم على هذا هو قوله : { قالوا إِنْ هذان } أي : موسى وهارون ، { لساحران } عظيمان { يُريدان أن يُخرجاكم من أرضكم } مصر ، بالاستيلاء عليها { بسحرهما } الذي أظهره قبل ، { ويَذْهبا بطريقتكُمُ المثلى } أي : بمذهبكم ، الذي هو أفضل المذاهب وأمثلُها ، بإظهار مذهبهما وإعلاء دينهما . قال ابن عطية : والأظهر ، في الطريقة هنا ، أنه السيرة والمملكة . والمُثلى : تأنيث الأمثل ، أي : الفاضلة الحسنة . هـ . وقيل : الطريقة هنا : اسم لوجوه القوم وأشرافِهم ، لأنهم قدوة لغيرهم ، والمعنى : يريدان أن يصرفا وجوه الناس وأشرافَهم إليهما ، ويُبطلان ما أنتم عليه . وقال قتادة : طريقتهم المثلى يومئذ : بنو إسرائيل ، كانوا أكثر القوم عددًا وأموالاً ، فقال فرعون : إنما يريدان أن يذهبا به لأنفسهما . ولا شك أن حمل الإخراج على إخراج بني إسرائيل من بينهم ، مع بقاء قوم فرعون على حالهم آمِنين في ديارهم بعيد ، مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله . وقوله تعالى : { فأجْمِعُوا كيدكم } : تصريح بالمطلوب ، أي : إذا كان الأمر كما ذكر ، من كونهما ساحرين يُريدان إخراجكم من بلادكم ، فأجمعوا كيدكم ، أي : اجعلوه مُجمعًا عليه ، بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم ، وارموه عن قوس واحدة . وقرأ أبو عمرو : { فاجْمَعُوا } ، من الجمع ، أي : فاجمعوا أدوات سحركم ورتبوها كما ينبغي ، { ثم ائْتُوا صفًّا } أي : مصطفين ، أمروا بذلك لأنه أَهْيَبُ في صدور الرائين ، وأَدْخَلُ في استجلاب الرهبة من المشاهدين . قيل : كانوا سبعين ألفًا ، مع كل واحد منهم حبل وعصا ، وأقبلوا عليه إقبالة واحدة ، وقيل : كانوا اثنين وسبعين ساحرًا اثنان من القبط ، والباقي من بني إسرائيل ، وقيل : تسعمائة ثلاثمائة من الفُرس ، وثلاثمائة من الروم ، وثلاثمائة من الإسكندرية ، وقيل : خمسة عشر ألفًا . والله تعالى أعلم . ولعل الموعد كان مكانًا متسعًا ، خاطبهم موسى عليه السلام بما ذكر في قطر من أقطاره ، وتنازعوا أمرهم في قطر آخر ، ثم أمروا أن يأتوا وسطه على الوجه المذكور . ثم قالوا في آخر نجواهم : { وقد أفلح اليوم مَن استعلى } فاز بالمطلوب مَنْ غلب ، يريدون بما وعدهم فرعون من الأجر والتقريب ، أو بالرئاسة والجاه والذكر الحسن في الناس . وقيل : كان نجواهم أن قالوا - حين سمعوا مقاله موسى عليه السلام - : ما هذا بقول ساحر ، وقيل : كان ذلك أن قالوا : إن غلبنا موسى اتبعناه ، وقيل : قالوا فيها : إن كان ساحرًا غلبناه ، وإن كان من السماء فله أمر . فيكون إسرارهم حينئذ من فرعون ، ويحمل قولهم : { إِن هذان لساحران … } الخ ، على أنهم اختلفوا فيما بينهم على الأقاويل المذكورة ، ثم أعرضوا عن ذلك بعد التنازع والتناظر ، واستقرت آراؤهم على المغالبة والمعارضة . والله تعالى أعلم بما كان . ثم طلبوا المعارضة ، فقالوا : { يا موسى إِما أن تُلقي } ما تلقيه أولاً ، { وإِما أن نكون أول من ألقى } ما نلقيه . خيروه عليه السلام فيما ذكر مراعاة للأدب ، لما رأوا عليه من مخايل الخير ، وإظهارًا للجلادة ، { قال بل أَلْقُوا } أنتم أولاً ، مقابلة لأدبهم بأحسن منه ، فَبَتَّ القول بإلقائهم أولاً ، وإظهارًا لعدم المبالاة بسحرهم ، ومساعدة لما أوهموا من الميل إلى البدء ، وليستفرغوا أقصى جهدهم وسعيهم ، ثم يُظهر اللهُ سبحانه سلطانه ، فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه كما تعودَ من ربه . فألقوا ما عندهم ، { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِم أَنَّهَا تَسْعَى } أي : ففوجئ موسى ، وتخيل سعي حبالهم وعصيهم من سحرهم ، وذلك أنهم كانوا لطخوها بالزئبق ، فلما ضربت عليها الشمس اضطربت واهتزت ، فخيل إليه أنها تتحرك . قلت : هكذا ذكر كثير من المفسرين . والذي يظهر أن تحريكها إنما كان من تخييل السحر الذي يقلب الأعيان في مرأى العين ، كما يفعله أهل الشعوذة ، وهو علم معروف من علوم السحر ، ويدل على ذلك ما ورد أنها انقلبت حيات تمشي على بطونها ، تقصد موسى عليه السلام ، فكيف يفعل الزئبق هذا ؟ قال ابن جزي : استدل بعضهم بهذه الآية أن السحر تخييل لا حقيقة له . هـ . { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً } أي : خوفًا ، { موسى } : أي : أضمر في نفسه بعض خوف ، من جهة الطبع البشري المجبول على النفرة من الحيات ، والاحتراز من ضررها . وقال مقاتل : إنما خاف موسى ، إذ صنع القوم مثل صنيعه ، بأن يشكُّوا فيه ، فلا يتبعوه ، ويشك فيه من تابعه . { قلنا لا تخف } ما توهمت ، { إِنك أنت الأعلى } الغالب عليهم ، والجملة : تعليل لنهيه عن الخوف ، وتقرير لغلبته ، على أبلغ وجه ، كما يُعرب عنه الاستئناف ، وحرف التحقيق ، وتأكيد الضمير ، وتعريف الخبر ، ولفظ العلو . ثم قال له : { وأَلْقِ ما في يمينك } أي : عصاك ، وإنما أبهمت تفخيمًا لشأنها ، وإيذانًا بأنها ليست من جنس العصا المعهودة ، بل خارجة عن حدود أفراد الجنس ، مبهمة الكنه ، مستتبعة لآثار غريبة ، وأما حملُ الإبهام على التحقير ، بمعنى : لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم ، وألق العُوَيْد الذي في يدك ، فإنه بقدرة الله تعالى يتلقفُها مع وحدته وكثرتها ، وصغره وكبرها ، فيأباه ظهور حالها ، وما وقع منها فيما مر من تعظيم شأنها . وقوله تعالى : { تَلْقَفْ ما صنعوا } : جواب الأمر ، من لقفه ، إذا ابتلعه والتقمه بسرعة ، أي : تبتلع ، وتلتقم بسرعة ، ما صنعوا من الحبال والعصي ، التي تخيل إليك ، والجملة الأمرية معطوفة على النهي عن الخوف ، موجبة لبيان كيفية غلبته عليه السلام وعلوه ، وإدحاض الخوف عنه ، فإن ابتلاع عصاه لأباطيلهم ، التي منها أوجس في نفسه ما أوجس ، مما يقلع مادته بالكلية . وهذا ، كما ترى ، صريح في أن خوفه عليه السلام لم يكن - كما قال مقاتل - من خوف شك الناس وعدم اتباعه له عليه السلام ، وإلا لعلله بما يزيله من الوعد بالنصر الذي يُوجب اتباعه . فتأمله . قاله أبو السعود . وفيه نظر بأن قوله : { تلقف ما صنعوا } صريح في عدم الالتباس إذ لا ينبغي التباس مع ابتلاع عصاه لعصيهم ، فتأمله . { إِنما صنعوا كَيْدُ ساحرٍ } أي : إن الذي صنعوه كيد ساحر وحِيلَهُ . وقرأ أهل الكوفة : { سِحْر } بكسر السين ، فالإضافة للبيان ، كما في " علم فقه " ، أو : كيد ذي سحر ، أو يسمى الساحر سحرًا مبالغة . والجملة تعليل لقوله : { تلقف } أي : تبتلعه لأنه كيد ساحر ، { ولا يُفلح الساحرُ حيث أتى } أي : حيث وُجد ، وأين أقبل ، وهو من تمام التعليل . والله تعالى أعلم . الإشارة : يقال للفقير ، المتوجه إلى الله تعالى ، من قبل الحق : إمَّا أن تُلقي الدنيا من يدك ، وإمَّا أن نكون أول من ألقاها عنك ، أي : إما أن تتركها اختيارًا ، أو تزول عنك اضطرارًا لأن عادته تعالى ، مع المتوجه الصادق ، أن يدفع عنه كل ما يشغله من أمور الدنيا فيقول - إن كان صادق القلب - : بل ألقها ، ولا حاجة لي بها ، فألقاها الحق تعالى ، وأخرجها من يده ، عناية به ، فإذا أشغالها وعلائقها كانت تسعى في هلاكه وخراب قلبه وتضييع عمره ، فأوجس في نفسه خيفة من العيلة ولحوق الفاقة ، قلنا : لا تخف ، حيث توجهت إلى مولاك ، فإن الله يرزق بغير حساب وبلا أسباب ، وأَلقِ ما في يمين قلبك من اليقين ، تلقف ما صنعوا ، أي : ما صنعت بِكَ خواطر السوء والشيطان ، لأنه يَعدِ بالفقر ويأمر بالفحشاء ، وإنما صنعوا ذلك تخويفًا وتمويهًا ، لا حقيقة له ، كما يفعل الساحر ، { ولا يفلح الساحر حيث أتى } . ثمَّ ذكر إسلام السحرة وما كان من شأنهم