Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 20, Ayat: 77-79)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولقد أوحينا إِلى موسى أنْ أسرِ بعبادي } بعد ما لبث يدعو فرعون إلى الله تعالى ويُريه الآيات المفصلات ، بعد غلبة السحرة ، نحوًا من عشرين سنة ، كما فصّل ذلك في الأعراف ، فلما أيس من إيمانهم أوحى الله بالخروج عنهم ، أي : والله لقد أوحينا إلى موسى أن أسر ، أو بأن أسر بعبادي الذين أرسلتك لإنقاذهم من يد فرعون ، أي : سر بهم من مصر ليلاً إلى بحر القلزم . والتصدير بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها ، والتعبير عنهم بعبادي لإظهار الرحمة والاعتناء بهم ، والتنبيه على غاية قبح صنيع فرعون ، حيث استعبدهم ، وهم عباده عزّ وجلّ ، وفعل بهم من فنون العذاب ما فعل . { فاضربْ لهم } أي : اجعل لهم ، أو اتخذ لهم { طريقًا في البحر يبسًا } أي : يابسًا لا ماء فيه ، { لا تخاف دَرَكًا } أي : حال كونك آمنًا من أن يُدرككم العدو ، { ولا تخشى } الغرق ، وقرأ حمزة : " لا تخف " بالجزم ، جوابًا للأمر ، فيكون { ولا تخشى } : إما استئناف ، أي : وأنت لا تخشى ، أو عطف عليه ، والألف للإطلاق ، أو يقدر الجزم ، كقوله : @ ألَمْ يأتِكَ والأنْباءُ تَنْمِي @@ … الخ . وتقديم نفي خوف الدرك ، للمسارعة إلى إزاحة ما كانوا عليه من الخوف ، حيث قالوا : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [ الشُّعَرَاء : 61 ] . { فَأَتْبَعَهُمْ فرعونُ بجنوده } أي : تبعهم ومعه جنوده حتى لحقهم ، يقال : اتبعتهم ، أي : تبعتهم ، إذا كانوا سبقوك ولحقتهم ، ويؤيده قراءة : { فاتَّبَعَهُمْ } بالشد . وقيل : الباء زائدة ، والمعنى : فأتبعهم فرعون جنودَه ، أي : ساقهم خلفهم ، وأيًا ما كان ، فالفاء فصيحة مُعْربة عَن مضمر قد طوى ذكره ، ثقة بظهوره ، وإيذانًا بكمال مسارعة موسى إلى الامتثال ، أي : فَفَعل ما أُمر به من الإسراء بهم ، وضرب الطريق في البحر وسلكوه ، فأتبعهم بجنوده برّا وبحرًا . رُوِيَ أن موسى عليه السلام خرج بهم أول الليل ، وكانوا ستمائة وسبعين ألفًا ، فأخبر فرعون بذلك ، فأتبعهم بعساكره ، وكانت مقدمته سبعمائة ألف ، فقص أثرهم فلحقهم ، بحيث تراءى الجمعان ، فلما أبصروا رهجَ الخيل ، قالوا : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشُّعَرَاء : 61 ، 62 ] . فلما قربوا ، قالوا : يا موسى أين نمضي ، البحر أمامنا ، وخيل فرعون خلفنا ، فعند ذلك ضرب موسى عصاه البحر فانفلق على ثنتي عشرة فرقة ، { كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ } [ الشُّعَرَاء : 63 ] أي : كالجبل العظيم من الماء ، وكانوا يمرون به ، وكلهم بنو أعمام ، لا يرى بعضُهم بعضًا ، فقالوا : قد غرق إخواننا ، فأوحى الله إلى أطواد الماء : أن اشتبكي ، وصارت شبابك ، يرى بعضهم بعضًا ، ويسمع بعضهم كلامَ بعض ، فلما أتى فرعونُ الساحلَ ، وجد البحر منفلقًا ، فقال : سحر موسى البحر ، فقالوا : إن كنت ربًا فادخل كما دخل ، فجاء جبريلُ على رَمَكةٍ ودَيِقٍ ، أي : تحب الفحل ، وكان فرعون على حصان ، فاقتحم جبريل بالرمكة الماء ، فلم يتمالك حصان فرعون ، فاقتحم البحر على إثره ، ودخل القبط كلهم ، فلما لَجَّجُوا ، أوحى الله تعالى إلى البحر أن أغرقهم ، فعلاهم البحر وأغرقهم . فَعبَر موسى عليه السلام بمن معه من الأسباط سالمين ، وأما فرعون وجنوده { فغَشِيَهم من اليمِّ ما غشيهم } أي : علاهم منه وغمرهم من الأمر الهائل ، الذي لا يُقادر قدره ولا يبلغ كنهه . قال القشيري : فغرقوا بجملتهم ، وآمن فرعونُ لما ظهر له البأس ، فلم ينفعه إقراره ، وكان ينفعه لو لم يكن إصرارُه ، وقد أدركته الشقاوةُ التي سَبَقَتْ له من التقدير . هـ . وقال الكواشي : { وغشيهم } من الغضب والغرق ، وغير ذلك ، ما لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى . هـ . فإبهام الصلة للتهويل والتفخيم ، وقيل : { غشيهم من اليم } ما سمعتَ قصته في غير هذه السورة ، وليس بشيء فإن مدار الإبهام على التهويل والتفخيم ، بحيث يخرج عن حدود الفهم والوصف ، لا سماع قصته فقط . { وأضلّ فرعونُ قومَه } أي : أتلفهم وسلك بهم مسلكًا أدى بهم إلى الخيبة والخسران ، حيث ماتوا على الكفر ، وأوصلهم إلى العذاب الهائل الدنيوي ، المتصل بالعذاب الدائم الأخري ، { وما هدَى } أي : ما أرشدهم قط إلى طريق توصلهم إلى مطلب من المطالب الدينية والدنيوية . وهو تقرير لإضلاله وتأكيد له ، وفيه نوع تهكم به في قوله : { وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ } [ غَافر : 29 ] ، فإن نفي الهداية عن شخص مشعر بكونه ممن يتصور منه الهداية في الجملة ، وذلك إنما يتصور في حقه بطريق التهكم . والله تعالى أعلم . الإشارة : انظر عاقبة من شدّ يده على دينه ، وصبر على شدائد زمانه ، كيف خرقت له العوائد ، وجاءه العز والنصر فأنساه تلك الشدائد ، وأهلك الله من كان يؤذيه من الأعداء ، وسلك به سبيل النجاة والهدى ، وهذه عادة الله مع أوليائه ، يُشدد عليهم أولاً بضروب البلايا والمحن ، ثم يعقبهم العز والنصر وضروب المنن . ولذلك ذكر الله بني إسرائيل بما أنعم عليهم بعد البحر