Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 21, Ayat: 107-112)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { رحمة } : مفعول لأجله ، أو حال . يقول الحقّ جلّ جلاله : { وما أرسلناك } يا محمد { إِلا رحمةً للعالمين } أي : ما أرسلناك بما ذكر من الشرائع والأحكام ، وغير ذلك مما هو مناط سعادة الدارين ، لعلة من العلل ، إلا لرحمتنا الواسعة للعالمين قاطبة . أو ما أرسلناك في حال من الأحوال ، إلا حال كونك رحمة لهم ، فإن ما بُعثتَ به سببٌ لسعادة الدارين ، ومنشأ لانتظام مصالحهم في النشأتين ، ومن لم يضرب له في هذه المغانم بسهم فإنما أُوتي من قِبل نفسه ، حيث فرط في اتّباعه ، وقيل : إنه رحمة حتى في حق الكفار في الدنيا بتأخير عذاب الاستئصال ، والأمن من المسخ والخسف والغرق ، حسبما نطق به قوله تعالى : { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفَال : 33 ] . { قل إِنما يوحى إِليّ أَنما إِلهكم إِلهٌ واحد } أي : ما يوحى إليّ إلا أنه لا إله لكم إلا إله واحد لأنه المقصود الأصلي من البعثة ، وأما ما عداه فإنما هو من الأحكام المتفرعة عليه ، لا يصح بدونه . و { إنما } الأولى : لقصر الحكم على الشيء ، كقولك : إنما يقوم زيد ، والثانية : لقصر الشيء على الحكم ، كقولك : إنما زيد قائم ، أي : إنما يُوحى إليّ وحدي أنما إلهكم واحد . { فهل أنتم مسلمون } أي : مخلصون العبادة لله { فإن تولوا } عن الإسلام ، ولم يلتفتوا إلى ما يوجبه من استماع الوحي ، { فقل آذنتُكم } أي : أعلمتكم ما أُمرت به ، أو بمحاربتي لكم ومخالفتي لدينكم ، فتكونوا { على سواءٍ } ، أو كائنين على سواء في الإعلام به ، لم أطوه عن أحد منكم ، أو مستوين أنا وأنتم في العلم بما أعلمتكم به من الشرائع ، لم أظهر بعضكم على شيء كتمته عن غيره . وفيه دليل بطلان مذهب الباطنية . قيل : وهذه من فصاحة القرآن وبلاغته . { وإِنْ أَدْرِي } أي : ما أدري { أقريبٌ أم بعيدٌ ما تُوعدون } من البعث والحساب متى يكون لأن الله تعالى لم يُطلعني عليه ، ولكن أنبأني أنه آت لا محالة ، وكل آت قريب . ولذلك قال : { وَٱقْتَرَبَ ٱلْوَعْدُ ٱلْحَقُّ } [ الأنبيَاء : 97 ] ، أو : لا أدري متى يحل بكم العذاب ، أو ما توعدون من إظهار المسلمين وظهور الدين ، { إِنه يعلم الجهرَ من القول ويعلم ما تكتمون } أي : إنه عالم بكل شيء ، يعلم ما تجهرون به من الطعن في الإسلام وتكذيب الآيات ، وما تكتمونه في صدوركم من الأحقاد للمسلمين ، فيجازيكم عليه نقيرًا وقطميرًا . { وإِنْ أدري لعله فتنةٌ لكم } أي : ما أدري لعل تأخير العذاب عنكم في الدنيا امتحان لكم لينظر كيف تعملون ، أو استدراج لكم ، وزيادة في افتتانكم ، { ومتاعٌ إلى حين } أي : تمتع لكم إلى حين موتكم ليكون حجة عليكم ، أو إلى أجل مقدر تقتضيه المشيئة المبنية على الحِكَم البالغة . { قل ربِّ احكُم بالحق } أي : اقض بيننا وبين كفار مكة بالعدل ، المقتضي لتعجيل العذاب . فهو كقول شعيب عليه السلام : { رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ } [ الأعرَاف : 89 ] ، أو بما يحق عليهم من العذاب ، واشدد عليهم ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " اللَّهُمَّ اشْدُدْ وطأَتَكَ عَلَى مُضَرَ " ، وقد استجيب دعاؤه - عليه الصلاة والسلام - ، حيث عُذبوا ببدر أيّ تعذيب . وقرأ الكسائي وحفص : { قال } حكاية لدعائه صلى الله عليه وسلم . ثم استعان بالله على إبطال ما كانوا يؤملون من النصرة لهم ، وتكذيبهم في ذلك ، فقال : { وربنا الرحمن } كثير الرحمة على عباده ، { المستعان على ما تصفون } من كون الغلبة لكم . كانوا يصفون الحال على خلاف ما جرت عليه ، وكانوا يطمعون أن تكون الشوكة والغلبة لهم ، فكذب الله ظنونهم ، وخيّب آمالهم ، وغيّر أحوالهم ، ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم عليهم ، وخذلهم لكفرهم . وبالله التوفيق . الإشارة : قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : الأنبياء - عليهم السلام - خُلقوا من الرحمة ، ونبينا صلى الله عليه وسلم هو عين الرحمة ، قال تعالى : { وما أرسلناك إِلا رحمة للعالمين } . هـ . وقال أيضًا : الأنبياء - عليهم السلام - لأممهم صدقة ، ونبينا صلى الله عليه وسلم لنا هدية . قال صلى الله عليه وسلم : " وأنا النعمة المهداة " ، فالصدقة للفقراء ، والهدية للكبراء . ثم إن غاية الرحمة : الوصول إلى التوحيد الخاص لأنه سبب الزلفى من الله والاختصاص ، ولذلك أمره به ، بعد أن جعله رحمة ، فقال : { قل إنما يُوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحد … } الخ . فمن أعرض عنه فقد أوذن بالبُعد والطرد . ولعل تأخير العقوبة عنه ، في الدنيا ، استدراج ومتاع إلى حين . ثم إن الصارف عن الدخول إلى التوحيد الخاص - وهو توحيد العيان - : القواطع الأربع : النفس ، والشيطان ، والدنيا ، والهوى . زاد بعضهم : الناس - أي : عوام الناس ، فإذا حكم الله بين العبد وبين هذه القواطع ، وصل إلى صريح المعرفة . { قل ربِّ احكم بالحق } أي : احكم بيني وبين عدوي بحكمك الحق ، حتى تدفعه عني وتدمغَهُ ، { وربنا الرحمن المستعان } به { على ما تصفون } من التعويق والتشغيب . والله المستعان ، وعليه أتوكل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .