Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 21, Ayat: 30-33)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { فِجَاجًا } : حال من " سُبل " ، وأصله : وصف له ، فلما تقدم أُعرب حالاً . وقيل { سُبُلاً } : بدل من { فجاجًا } . وفي إتيانه : إيذان أن تلك الفجاج نافذة لأن الفج قد يكون نافذًا وقد لا . قاله المحشي . يقول الحقّ جلّ جلاله : { أوَ لَمْ يَر الذين كفروا } رؤية اعتبار { أنّ السماواتِ والأرضَ } أي : جماعة السماوات وجماعة الأرض { كانتا } ، ولذلك لم يقل كُنَّ ، { رَتْقًا } أي : ملتصقة بعضها ببعض . والرتق : الضم والالتصاق . وهو مصدر بمعنى المفعول ، أي : كانتا مرتوقتين ، أي : ملتصقتين ، { ففتقناهما } فشققناهما ، فالفتق ضد الرتق . قال ابن عباس رضي الله عنه : " كانتا شيئًا واحدًا متصلتين ، ففصل الله بينهما ، فرفع السماء إلى حيث هي ، وأقرّ الأرض " . وفي رواية عنه : أرسل ريحًا فتوسطتهما ففتقتهما . وقال السدي : كانت السماوات مؤتلفة طبقة واحدة ففتقها ، فجعلها سبع سماوات ، وكذلك الأرض ، كانت طبقة واحدة ، ففتقها ، فجعلها سبع أرضين . فإِن قيل : متى رأوهما رتقًا حتى جاء تقريرهم بذلك ؟ قلنا : مصب الكلام والتقرير هو فتق السماوات ورفعها ، وهو مشاهد بالأبصار ، وهم متمكنون من النظر والاعتبار ، فيعلمون أن لها مدبرًا حكيمًا ، فَتَقَهَا ورفعها ، وهو الحق جلّ جلاله ، وذكر الرتق زيادة إخبار ، فكأنه قال : ألم يروا إلى فتق السماوات ورفعها ؟ وقال الكواشي : لَمّا كان القرآن معجزًا ، كان وروده برتقهما كالمشاهد المرئي ، أو : لمّا كان تلاصق السماوات والأرضين ، وما بينهما ، وتباينهما ، جائزًا عقلاً ، وجب تخصيص التلاصق من التباين ، وليس ذلك إلا لله تعالى . هـ . وقيل : كانت السماوات صلبة لا تمطر ، والأرض رتقًا لا تنبت ، ففتق السماء بالأمطار ، والأرض بالنبات . ورُوي هذا عن ابن عباس أيضًا ، وعليه أكثر المفسرين ، وعِلْمُ الكفرةِ الرتقِ والفتق ، بهذا المعنى ، مما لا خفاء فيه . والرؤية على الأول رؤية علم ، وعلى الثاني رؤية عين . { وجعلنا من الماء كل شيءٍ حيٍّ } أي : خلقنا من الماء كل حيوان ، كقوله تعالى : { وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ } [ النُّور : 45 ] ، وذلك لأنه من أعظم مواده ، أو لفرط احتياجه إليه ، وحبه له ، وعدم صبره عنه ، وانتفاعه به ، ويدخل في ذلك : النبات مجازًا دون الملائكة ، فأَلْ فيه للحقيقة والماهية ، إلا أنه صرفه عن ذلك إلى العهد الذهني قرينةُ الجعل ، كما في آية : { فَأَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ } [ يُوسُف : 17 ] ، فإن القرينة تخلص ذلك للبعضية وإرادة الأشخاص . وقيل المراد به : المَنِيُّ . فأَلْ فيه ، حينئذ ، للعهد الذهني فقط . قال القشيري : كُلُّ مخلوقٍ حيٍّ فَمِنَ الماء خَلْقُه ، فإنَّ أصلَ الحيوان الذي يحصل بالتناسل النطفةُ ، وهي من جملة الماء . هـ . وتقدم أن الملائكة لا تناسل فيها . { أفلا يؤمنون } بالله وحده ، وهو إنكار لعدم إيمانهم ، مع ظهور ما يُوجبه حتمًا من الآيات الآفاقية والأنفُسية ، الدالة على تفرده تعالى بالألوهية . { وجعلنا في الأرض رواسِيَ } أي : جبالاً ثوابت ، من رسا الشيءُ إذا ثبت ورسخ ، { أن تميد بهم } أي : كراهية أن تتحرك وتضطرب بهم ، أو لئلا تميد بهم - بحذف اللام - ، و " لا " لعدم الإلباس . { وجعلنا فيها } أي : في الأرض ، وتكرير الجعل لاختلاف المجعولين ، ولتوفية مقام الامتنان حقه ، أو في الرواسي لأنها المحتاجة إلى الطرق ، { فِجاجًا } : جمع فج ، وهو الطريق الواسع ، نفذ أم لا ، أي : جعلنا في الأرض مسالك واسعة ، و { سُبُلاً } نافذة : فالسبل هي الفجاج مع قيد النفوذ . فإن قيل : أيّ فرق بين هذا وبين قوله : { لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } [ نُوح : 20 ] ؟ فالجواب : أنه هُنا بيَّن أنه خلقها على هذه الصفة ، وهناك بيَّن أنه جعل فيها طُرقًا واسعة ، وليس فيه بيان أنه خلقها كذلك ، فما هنا تفسير لما هناك . انظر النسفي . وقوله تعالى : { لعلهم يهتدون } أي : إلى البلاد المقصودة بتلك السبل ، أو إلى مصالحهم ومهماتهم . { وجعلنا السماء سقفًا محفوظًا } من السقوط ، كقوله : { وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ الحَجّ : 65 ] ، أو من الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم ، أو من استراق السمع بالشهب ، كما قال : { وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ } [ الصَّافات : 7 ] . { وهم } أي : الكفار { عن آياتها } أي : عن الأدلة التي فيها ، كالشمس والقمر والنجوم ، وغير ذلك مما فيها من العجائب الدالة على وحدانيته تعالى وقدرته وحكمته ، التي بعضها محسوس ، وبعضها معلوم بالبحث في علمي الطبيعة والهيئة ، { مُعْرِضُون } لا يتدبرون فيها ، فيقفون على ما هم عليه من الكفر والضلال ، فيؤمنون . { وهو الذي خلق الليلَ } لتسكنوا فيه ، { والنهارَ } لتتصرفوا فيه ، { والشمسَ } لتكون سراجَ النهار ، { والقمرَ } ليكون سراج الليل ، وهذا بيان لبعض تلك الآيات التي هم عنها معرضون . وقوله : { كلٌّ } أي : كلهم ، والمراد : جنس الطوالع ، { في فَلكٍ يَسْبَحُون } أي : يسيرون سير العائم في الماء . عن ابن عباس رضي الله عنه : الفلك السماء ، وقيل : موج مكفوف تحت السماء ، يجري فيه الشمس والقمر والنجوم . وجمهور أهل الهيئة أن الفلك : جسم مستدير ، وأنهن تسعة ، وهل هي السماوات السبع ، فيكون الكرسي ثامنًا ، والعرش تاسعًا ، أو غيرهن ، فتكون تحت السماوات أو فوقها ؟ قولان لهم . والمراد هنا : الجنس ، كقولك : كَسَاهُمُ الأميرُ حلةٌ ، أي : حُلة حُلةً ، وجعل الضمير واو العقلاء لأن السباحة حالُهم . قال في المستخرج من كتاب الغزنوني : " كلٌّ " أي : كل واحد من الشمس والقمر وسائر السيارة ، وإن لم تُذْكرون لأنه جمعَ قوله : { يَسْبَحُون } والمعنى : يجرون كالسابح أو يدورون ، والسيارة تجري في الفلك على عكس جري الفلك ، ولها تسعة أفلاك ، فالقمر في الفلك الأدنى ، ثم عطارد ، ثم الزهرة ، ثم الشمس ، ثم المريخ ، ثم المشتري ، ثم زُحل ، والثامن : فلك البروج ، والتاسع : الفلك الأعظم . هـ . وقال في سورة يس : خص الشمس والقمر هنا ، وفي سورة الأنبياء لأن سيرهما أبدًا على عكس دور الفلك ، وسَيْر الخمسة قد يكون موافقًا لسيره عند رجوعها . هـ . والله تعالى أعلم . الإشارة : أوَ لَم ير الذين كفروا بوجود التربية أن سماوات الأرواح وأرض النفوس كانتا رتقًا صلبة ، ميتة بالجهل ، ففتقناهما بالعلوم وأسرار التوحيد ؟ والمعنى : أن بعض الأرواح والنفوس تكون ميتة صلبة ، فإذا صَحِبَتْ أهل التربية ، انفتقت بالعلوم والأسرار ، فهذا شاهد بوجود أهل التربية ، ومن قال بانقطاعها فقوله مردود بالمشاهدة . وجعلنا من ماء الغيب - وهي الخمرة الأزلية - كلَّ شيء حي ، أفلا يؤمنون بوجود هذا الماء عند أربابه ؟ وجعلنا في أرض النفوس جبالاً من العقول لئلا تميل إلى الهوى فتموت ، وجعلنا فيها طُرقًا يسلك منها إلى الحضرة ، وهي كيفية الرياضة وأنواع المجاهدة ، وهي طرق كثيرة ، والمقصد واحد ، وهو الوصول إلى الفناء والبقاء ، التي هي معرفة الحق بالعيان ، وهو قوله تعالى : { لعلهم يهتدون } إلى الوصول إلى حضرتنا . وجعلنا السماء ، أي : سماء القلوب الصافية ، سقفًا محفوظًا من الخواطر والوساوس والشكوك والأوهام والشياطين ، قال بعضهم : " إذا كان الحق تعالى قد حفظ السماء بالشهب من الشياطين ، فقلوب أوليائه أولى بالحفظ . وهم عن آياتها ، أي : عن دلائل حفظها وصيانتها معرضون لانهماكهم في الغفلة . وهو الذي خلق ليل القبض ونهار البسط وشمس العرفان وقمر توحيد الدليل والبرهان ، كلٌّ في موضعه ، لا يتعدى أحد على صاحبه ، ولكل واحد سير معلوم وأدب محتوم . وبالله التوفيق . ولمّا قامت الحجة على الكفرة بما ذكرَ من الآيات والدلائل القاطعة ، وانقطعوا ، قالوا : ننتظر به ريب المنون ، فنستريح منه . فأنزل الله تعالى