Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 21, Ayat: 26-29)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا } ، حكى الله تعالى جناية أخرى لبعض المشركين ، جيء بها لبيان بطلانها . والقائل بهذه المقالة حيٌ من خزاعة ، وقيل : قريش وجهينة وبنو سلمة وبنو مليح ، يقولون : الملائكة بنات الله ، وأمهاتهم سروات الجن ، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا . والتعرض لعنوان الرحمانية المنبئة عن كون جميع ما سواه مربوباً له تعالى ، نعمة أو منعمًا عليه لإبراز كمال شناعة مقالتهم الباطلة ، { سبحانه } أي : تنزه تنزيهًا يليق بكمال ذاته ، وتقدَّس عن الصاحبة والولد ، { بل } هم { عبادٌ } لله تعالى ، و " بل " إبطال لما قالوا ، أي : ليست الملائكة كما قالوا ، { بل عبادٌ مكرمون } مقربون عنده ، { لا يسبقونه } أي : لا يتقدمونه { بالقول } ، ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم به . وهذه صفة أخرى لهم ، منبهة على كمال طاعتهم وانقيادهم لأمره تعالى ، أي : لا يقولون شيئًا حتى يقوله تعالى أو يأمرهم به . وأصله : لا يسبق قولُهم قولَه ، ثم أسند السبق إليهم لمزيد تنزههم عن ذلك ، { وهم بأمره يعملون } أي : لا يعملون إلا ما أمرهم به ، وهو بيان لتبعيتهم له تعالى في الأفعال ، إثر بيان تبعيتهم له في الأقوال ، فإن نفي سبقيتهم له تعالى بالقول : عبارة عن تبعيتهم له تعالى فيه ، كأنه قيل : هم بأمره يقولون وبأمره يعملون ، لا بغير أمره أصلاً . { يعلمُ ما بين أيديهم وما خلْفَهم } أي : ما عملوا وما هم عاملون ، وقيل : ما كان قبل خلقهم وما يكون بعد خلقهم . وهو تقرير لتحقق عبوديتهم لأنهم إذا كانوا مقهورين تحت علمه تعالى وإحاطته انتفت عنهم أوصاف الربوبية المكتَسبَة من مجانسة البنوة ، { ولا يشفعون إِلا لمن ارتضى } أن يشفع له ، مهابة منه تعالى . قال ابن عباس : " هم أهل لا إله إلا الله " ، { وهم من خشيته } عزّ وجلّ { مشفقون } : خائفون مرتعدون . قال بعضهم : أصل الخشية : الخوف مع التعظيم ، ولذلك خص بها العلماء ، وأصل الإشفاق : الخوف مع الاعتناء ، فعند تعديته بمن : يكون معنى الخوف فيه أظهر ، وعند تعديته بعلى : ينعكس الأمر فيكون معنى الإشفاق فيه أظهر . { ومن يَقُلْ منهم } أي : من الملائكة إذ الكلام فيهم ، { إِني إِلهٌ من دونه } أي : متجاوزًا إياه تعالى ، { فذلك } الذي فرض أنه قال ذلك فرض المحال ، { نَجْزِيه جهنم } كسائر المجرمين ، ولا ينفي هذا عنهم ما ذكر قبلُ من صفاتهم السنية وأفعالهم المرضية لأنه فرض تقدير ، وفيه من الدلالة على قوة ملكوته تعالى ، وعزة جبروته ، واستحالة كون الملائكة بحيث يتوهم في حقهم ما توهمه أولئك الكفرة ، ما لا يخفى ، { كذلك نجزي الظالمين } أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الظالمين ، الذين يضعون الأشياء في غير مواضعها ، ويتعدون أطوارهم . قال الكواشي : هذا القول وارد على سبيل التهديد والوعيد الشديد على ارتكاب الشرك ، كقوله : { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأنعَام : 88 ] . هـ . فالقصد : تفظيع أمر الشرك ، وأنه لو صدر ممن صدر لأحبط عمله ، وكان جزاء صاحبه جهنم ، ومثل ذلك الجزاء نجزي الظالمين ، وهم الكافرون ، والحاصل : أنه على سبيل الفرض ، مع علمه تعالى أنه لا يكون من الملائكة ، فهو من إخباره عما لا يكون كيف يكون ، لعلمه بما لا يكون ، مما جاز أن يكون ، كيف يكون . هـ . من الحاشية الفاسية ببعض اختصار . فالكاف من " كذلك " : في محل مصدر تشبيهي ، مؤكد لمضمون ما قبله . والقصر ، المستفاد من التقديم للمصدر ، معتبر بالنسبة إلى النقصان دون الزيادة ، أي : لا جزاء أنقص منه . والله تعالى أعلم . الإشارة : أنوار الملكوت متدفقة من بحر أسرار الجبروت ، من غير تفريع ، ولا تولد ، ولا علاج ، ولا امتزاج ، بل : كن فيكون ، لكن حكمته تعالى اقتضت ترتيب الأشياء وتفريع بعضها من بعض ، ليبقى السر مصونًا والكنز مدفونًا . فأسرار الذات العلية منزّهة عن اتخاذ الصاحبة والولد ، بل القدرة تُبرز الأشياء بلا علاج ولا أسباب ، والحكمة تسترها بوجود العلاج والأسباب . فكل ما ظهر في عالم التكوين قد عَمَّتْهُ قهرية العبودية ، وانتفت عنه نسبة البُنوة لأسرار الربوبية ، فأهل الملأ الأعلى عباد مكرمون ، مقدّسون من دنس الحس ، مستغرقون في هَيَمَان القرب والأنس ، وأهل الملأ الأسفل مختلفون ، فمن غلب عقلُه على شهوته ، ومعناه على حسه ، وروحانيته على بشريته ، فهو كالملائكة أو أفضل . ومن غلبت شهوته على عقله ، وحسه على معناه ، وبشريته على روحانيته ، كان كالبهائم أو أضل . ومن التحق بالملأ الأعلى ، من الأولياء المقربين ، انسحب عليه ما مدحهم به تعالى من قوله : { يُسبحون الليل والنهار لا يَفْتُرون } ، ومن قوله : { لا يسبقونه بالقول } ، بأن يدبروا معه شيئًا قبل ظهور تدبيره ، وهم بطاعته يعملون ، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ، وهم من خشية هيبته مشفقون ، { ومَن يقل منهم إني إله من دونه } بأن يدّعي شيئًا من أوصاف الربوبية ، كالكبرياء ، والعظمة على عباده ، فذلك نجزيه جهنم ، وهي نار القطيعة ، كذلك نجزي الظالمين . وفي الحِكَم : " منعك أن تدّعي ما ليس لك مما للمخلوقين ، أفيبيح لك أن تدّعي وصفه وهو رب العالمين " ؟ ثمَّ برهن على وحدانيته