Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 21, Ayat: 36-41)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { أهذا الذي } : مقول لحال محذوفة ، أي : قائلين : أهذا الذي ، وحذف الحال ، إذا كان قولاً ، مطردٌ . { وهم بذكر الرحمن } : حال ، و { بل تأتيهم } : عطف على { لا يكُفُّون } أي : لا يكفونها ، بل تأتيهم . يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإِذا رآك الذين كفروا } أي : المشركون { إِن يتخذونك } ما يتخذونك { إِلا هُزُوًا } مهزوءًا بك على معنى قصر معاملتهم معه - عليه الصلاة والسلام - على اتخاذهم إياه هزوًا ، كأنه قيل : ما يفعلون بك إلا اتخاذك هزوًا . نزلت في أبي جهل - لعنه الله - ، مرّ به النبي صلى الله عليه وسلم ، فضحك وقال : هذا نبيُّ بني عبد مناف . قال القشيري : لو شاهدوه على ما هو عليه من أوصاف التخصيص ، وما رقَّاه الله من المنزلة ، لظلوا له خاضعين ، ولكنهم حُجِبُوا عن معانيه وسريرته ، وعاينوا فيه جسمه وصورته . فاستهزؤوا بما لم يُحيطوا بعلمه ، حَال كونهم يقولون : { أهذا الذي يَذْكُرُ } أي : يعيب { آلهتكم } ، فالذكر يكون بخير وبضده ، فإنْ كان الذاكر صديقًا للمذكور فهو ثناء . وإن كان عدوًا فهو ذم . { وهم بذكر الرحمن } أي : بذكر الله وما يجب أن يذكر به من الوحدانية ، { هم كافرون } لا يصدقون به أصلاً ، فهم أحق بالهزء والسخرية منك لأنك مُحق وهم مُبطلون . والمعنى أنهم يعيبون - عليه الصلاة والسلام - أن يذكر آلهتهم ، التي لا تضر ولا تنفع ، بالسوء ، والحال : أنهم بذكر الرحمن ، المنعم عليهم بأنواع النعم ، التي هي من مقتضيات رحمانيته ، كافرون ، لا يذكرونه بما يليق به من التوحيد وأوصاف الكمال ، أو : بما أنزل من القرآن لأنه ذكر الرحمن ، { هم كافرون } جاحدون ، فهم أحقاء بالعيب والإنكار . وكرر لفظ " هُم " للتأكيد ، أو لأن الصلة حالت بينه وبين الخبر ، فأعيد المبتدأ . ثم قال تعالى : { خُلِقَ الإنْسانُ من عَجَل } ، العَجَل والعَجَلة مصدران ، وهو تقديم الشيء على وقته . والمراد بالإنسان : الجنس ، جُعل لفرط استعجاله ، وقلة صبره ، كأنه خُلق من العَجَلة ، والعرب تقول لمن يكثر منه الشيء : خُلق منه ، تقول لمن يكثر منه الكرم : خُلق من الكرم . ومن عجلته : مبادرته إلى الكفر واستعجاله بالوعيد . رُوي أنها نزلت في النضر بن الحارث ، حين استعجل العذاب بقوله : { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا … } [ الأنفَال : 32 ] الآية ، كأنه قال : ليس ببدع منه أن يستعجل ، فإنه مجبول على ذلك ، وطبعُه ، وسجيته . وعن ابن عباس رضي الله عنه : أن المراد بالإنسان آدم عليه السلام ، فإنه حين بلغ الروح صدره أراد أن يقوم . ورُوي : أنه لما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة ، ولمَّا وصل جوفه اشتهى الطعام ، فكانت العجلة من سجيته ، وسرت في أولاده . وإنما منعَ الإنسان من الاستعجال وهو مطبوع عليه ، ليتكمل بعد النقص ، كما أمره بقطع الشهوة وقد رَكّبها فيه لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العَجَلة . قال القشيري : العَجَلةُ مذمومةٌ ، والمُسَارَعَةُ محمودةٌ . والفرق بينهما : أن المسارعة : البِدارُ إلى الشيء في أول وقته ، والعَجَلة : استقباله قبل وقته ، والعَجَلةُ سمة وسوسة الشيطان ، والمسارعةُ قضية التوفيق . هـ . وقال الورتجبي : خلقهم من العَجَلة ، وزجرَهم عن التعجيل إظهارًا لقهاريته على كل مخلوق ، وعجزهم عن الخروج عن ملكه وسلطانه . وحقيقة العَجَلة متولدة من الجهل بالمقادير السابقة . هـ . قلت : ما زالت الطمأنينة والرَّزانَةُ من شأن العارفين ، وبها عُرفوا ، والعَجَل والقلق من شأن الجاهلين ، وبها وصفوا . وقيل : العَجَل الطين ، بلغة حِمْير ، ولا مناسبة له هنا . قال تعالى ، صارفًا للخطاب عن الرسول إلى المستعجلين : { سأُوريكم آياتي } : نَقَماتي ، كعذاب النار وغيره ، { فلا تستعجلون } بالإتيان بها ، وهو نهي عما جُبلت عليه نفوسهم ليقهروها عن مرادها من الاستعجال . { ويقولون متى هذا الوعد } : إتيان العذاب ، أو القيامة ، { إِن كنتم صادقين } في وعدكم بأنه يأتينا ، قالوه استعجالاً بطريق الاستهزاء ، والإنكار ، لا طلبًا لتعيين وقته ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين يتلون الآيات الكريمة المنبئة عن مجيء الساعة . قال تعالى : { لو يعلمُ الذين كفروا } ، هذا استئناف مسوق لبيان شدة هول ما يستعجلونه ، وفظاعة ما فيه من العذاب ، وأنهم يستعجلونه لجهلهم بشأنه . وقوله تعالى : { حين لا يَكُفُّون عن وجوههم النارَ ولا عن ظهورهم ولا هم يُنصرون } : مفعول { يعلم } ، وهو عبارة عن الوقت الموعود ، الذي كانوا يستعجلونه . وقوله : { لو يعلمُ الذين كفروا } أي : حين يرون ويعلمون حقيقة الحال ، وهو معاينة العذاب . وجواب " لو " : محذوف ، أي : لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه بقولهم : متى هذا الوعد ؟ وهو الوقت الذي تحيط بهم النار من ورائهم وقدامهم ، فلا يقدرون على دفعها ومنعها من أنفسهم ، ولا يجدون ناصرًا ينصرهم ، لَمَا كانوا بهذه الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال ، ولكن جهلهم به هو الذي هوّنه عندهم . { بل تأتيهم بغتة } أي : بل تأتيهم النار أو الساعة فجأة ، { فتَبهتُهُم } : فتُحيِّرهم أو تغلبهم ، { فلا يستطيعون ردَّها } فلا يقدرون على دفعها عنهم ، أي : النار أو الساعة ، { ولا هم يُنظرون } : يُمهلون ليستريحوا طرفة عين . ثم سلّى رسوله عن استهزائهم ، فقال : { ولقد استُهزئ برسل من قبلك فحاقَ } : نزل أو أحاط أو حلّ { بالذين سخروا منهم } أي : من أولئك الرّسل - عليهم السلام - جزاء { ما كانوا به يستهزئون } ، وهو العذاب الدائم . نسأل الله العافية . الإشارة : كل من خرق عوائد نفسه ، وخرج عن عوائد الناس ، أو أمر بالخروج عن العوائد ، رفضه الناس واتخذوه هُزوًا ، سنة الله التي قد خلت من قبل ، لم يأت أحد بذلك إلا عُودي ، فإن ظهر عليه أثر الخصوصية من علم لدني ، أو هداية خلق على يده ، استعجلوه بإظهار الكرامة ، كما هو شأن الإنسان ، خُلق من عَجَل ، فيقول : سأوريكم آياتي ، فإن الأمر إذا كان مؤسسًا على الحق لا بد أن تظهر أنواره وأسراره ، فلو يعلم الذين كفروا بطريق الخصوص ، حين ترهقهم الحسرة ، وتُحيط بهم الندامة ، إذا رأوا أهل الصفاء يسرحَون في أعلى عليين حيث شاؤوا ، وجوههم كالشموس الضاحية ، لبادروا إلى الانقياد لهم ، وتقبيل التراب تحت أقدامهم ، ولكنهم اليوم في غفلة ساهون . ويقال لمن أنكر عليه أهلُ زمانه طريقَ التجريد وخرقَ العوائد : ولقد استُهزئ بمن كان قبلك ممن سلك هذه الطريق ، فأُوذوا ، وضُربوا ، وأُخرجوا من بلادهم ، فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ، إما في الدنيا أو في الآخرة . فإذا أنزل بأسه فلا حافظ منه إلاَّ الرحمن