Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 21, Ayat: 42-44)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قلْ } لهم يا محمد : { مَن يكلؤكُم } : يحفظكم { بالليل والنهار من } بأس { الرحمنِ } الذي تستحقونه ، إذا نزل بكم ليلاً أو نهارًا . قال الواسطي : من يحفظكم بالليل والنهار من الرحمن أن يظهر عليكم ما سبق فيكم ؟ وقال ابن عطاء : من يكلؤكم من أمر الرحمن سوى الرحمن ، وهل يقدر أحد على الكلاءة سواه ؟ وتقديم الليل لأن الدواهي فيه أكثر وقوعًا وأشد وقعًا . وفي التعرض لعنوان الرحمانية إيذان بأن كلاءتهم ليس إلا برحمته العامة . { بل هم عن ذِكْرِ ربهم معرضون } أي : بل هم معرضون عن ذكره ، ولا يُخطِرونه ببالهم ، فضلاً أن يخافوا بأسه ، حتى إذا رزقوا الكلاءة عرفوا مَن الكالئ ، وصلحوا للسؤال عنه . والمعنى : أنه أمر رسوله - عليه الصلاة والسلام - بسؤالهم عن الكالئ ، ثم أضرب عنه ، وبيَّن أنهم لا يصلحون لذلك ، لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم . هكذا للزمخشري ومن تبعه . وقال ابن جزي : والمعنى : أنه تهديد وإقامة حجة عليهم لأنهم لو أجابوا عن هذا السؤال لاعترفوا بأنه ليس لهم مانع ولا حافظ غيره تعالى - يعني لِمَا جربوه في أحوال محنتهم - ثم قال : وجاء قوله : { بل هم عن ذكر ربهم معرضون } ، بمعنى أنهم ، إذا سُئلوا ذلك السؤال ، لم يجيبوا عنه ، لأنهم تقوم عليهم الحجة إن أجابوا ، ولكنهم يعرضون عن ذكر الله . هـ . أي : يعرضون عن أن يقولوا : كالأنا الله عتوًا وعنادًا . وهو معنى قوله : { بل هم عن ذكر ربهم مُعرِضون } ، كأنه قال : لو سُئلوا ، لم يجدوا جوابًا ، إلا أن يقولوا : هو الله ، لكنهم يعرضون عن ذكره مكابرة . قلت : وما قاله ابن جزي أحسن مما قاله الزمخشري ومن تبعه ، وأقرب . ثم قال تعالى : { أم لهم آلهةٌ تمنعُهم من دوننا } ، هذا انتقال من بيان جهلهم بحفظه تعالى ، أو إعراضهم عن ذكره ، إلى توبيخهم باعتمادهم على آلهتهم . والمعنى : ألهم آلهة تمنعهم من العذاب تجاوز منعنا وحفظنا ، فهم يعولون عليها واثقون بحفظها ؟ وفي توجيه الإنكار والنفي إلى وجود الآلهة بما ذكر من المنع ، لا إلى نفس الصفة ، بأن يقال : أم تمنعهم آلهتهم … الخ . من الدلالة على سقوطها عن مرتبة الوجود ، فضلاً عن رتبة المنع ، ما لا يخفى . ثم قال تعالى : { لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منّا يُصْحَبُون } أي : يُجَارون . والصاحب : المُجِير الوافي ، يعني : أن الأصنام لا تُجير نفسها ، ولا نُجيرهم نحن ، أو لا يصحبُهم نصر من جهتنا ، فهم لا يستطيعون أن ينصروا أنفسهم ، ولا يُصحبون بالنصر والتأييد من جهتنا ، فكيف يتوهم أن ينصروا غيرهم ؟ { بل متّعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العُمُرُ } ، إضراب عما توهموه من منع آلهتهم وحفظها لهم ، أي : ما هم فيه من الحفظ والكلاءة إنما هو منا ، لا من مانع يمنعهم من إهلاكنا ، وما كلأناهم وآباءهم الماضين إلا تمتيعًا لهم بالحياة الدنيا وإمهالاً ، كما متعنا غيرهم من الكفار وأمهلناهم حتى طال عليهم الأمد فقست قلوبهم ، وظنوا أنهم دائمون على ذلك ، وهو أمل كاذب . { أفلا يَرَوْن أنَّا نأتي الأرضَ ننقُصُها من أطرافها } أي : ألا ينظرون فيرون أنَّا نأتي أرض الكفرة فننقصها من أطرافها بإدخالها في أيدي المسلمين ، فكيف يتوهمون أنهم ناجون من بأسنا . وهو تمثيل وتصوير لما يخربه الله من ديارهم على أيدي المسلمين ، ويضيفها إلى دار الإسلام . وفي التعبير بنأتي : إشارة إلى أن الله تعالى يجريه على أيدي المسلمين ، وأن عساكرهم كانت تأتيهم لغزوهم غالبة عليهم ، ناقصة من أطراف أرضهم . { أفهم الغالبون } على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، أي : أفكفار مكة يغلبون بعد أن نقصنا من أطراف أرضهم ؟ أي : ليس كذلك ، بل يغلبهم الرسول - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه الكرام ، وقد تحقق ذلك وأنجز الله وعده ، والله غالب على أمره . الإشارة : قل من يكلؤ قلوبكم وأسراركم من الرحمن ، أن يذهب بما أودع فيها من المعارف وأنوار الإحسان ؟ فلا أحد يحفظها إلا من رحمها بما أودع فيها ، ولهذا كان العارفون لا يزول اضطرارهم ، ولا يكون مع غير الله قرارهم ، لا يعتمدون على عمل ولا حال ، ولا على علم ولا مقال ، وفي الحكم : " إلهي ، حكمك النافذ ، ومشيئتك القاهرة ، لم يتركا لذي حال حالاً ، ولا لذي مقال مقالاً " . وقال أيضًا : " إلهي كم من طاعة بنيتُها وحالة شيدتُها ، هدم اعتمادي عليها عدلك ، بل أقالني منها فضلك " . وكثير من الناس غافلون عن هذا المعنى ، بل هم عن ذكر ربهم مُعرِضون . قال الورتجبي : قوله تعالى : { قل من يكلؤكم … } الآية ، أخبر عن كمال إحاطته بكل مخلوق ، وتنزيهه عن العَجَلة بمؤاخذتهم ، كأنه يقول : أنا بذاتي تعاليت ، أدفع بلطفي القديم عنكم قهري القديم ، ولولا فضلي السابق وعنايتي القديمة بالرحمة عليكم ، من يدفعه بالعلة الحدثانية ؟ وهذا من كمال لطفي عليكم وأنتم بعد معرضون عني يا أهل الجفا ، وذلك قوله : { بل هم عن ذكر ربهم مُعرِضون } . هـ . بلفظه مع تصحيف في النسخة . وقوله تعالى : { بل متعنا هؤلاء … } الآية ، تمتيع العبد بطول الحياة ، إن كان ذلك في طاعة الله ، وازدياد في معرفته ، فهو من النعم العظيمة . وفي الحديث : " خَيرُكُم مَنْ طَال عُمُرهُ وحَسُنَ عَمَلُهُ " لكن عند الصوفية : أنه لا ينبغي للمريد أن ينظر إلى ما مضى من عمره في طريق القوم ، فقد كان بعض الشيوخ يقول : لا يكن أحدكم عبد الدهور وعبد العدد . قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : معنى كلامه : أنه لا ينبغي للفقير أن يعدكم له في طريق القوم ، ليقول : أنا لي كذا وكذا من السنين في طريق القوم . هـ . بالمعنى . ولعل علة النهي لئلا يرى للأيام تأثيرًا في الفتح ، فقد قالوا : هي لمن صدق لا لمن سبق . وقوله تعالى : { أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } قال القشيري : فيه إشارة إلى سقوط قوى العبد بمرور السنين ، وتطاول العمر ، فإن آخر الأمر كما قيل : @ آخِرُ الأمر ما تَرَى القبرُ واللَّحدُ والثرى @@ وكما قيل : @ طَوَى العَصْرانِ ما نَشَرَاهُ مني فأبلى جِدَّتِي نَشْرٌ وطيُّ أراني كلَّ يوم في انتقاصٍ ولا يبقى مع النقصان شيُّ @@ وكأنه فسر الأرض بأرض النفوس من باب الإشارة . والله تعالى أعلم .