Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 21, Ayat: 45-47)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولمَّا بيَّن الحق تعالى غاية هول ما يستعجله المستعجلون ، ونهاية سوء حالهم ، عند إتيانه ، ونعى عليهم جهلهم بذلك ، وإعراضهم عند ذكر ربهم ، الذي يكلؤهم من طوارق الليل والنهار ، أمَرَ نبيه - عليه الصلاة والسلام - بأن يخبرهم أن ما ينذرهم به ، مما يستعجلونه ، إنما هو بالوحي ، لا من عنده . قلت : مَن قرأ : { يَسمع } بفتح الياء ، فالصُّم : فاعل ، والدعاء : مفعول ، ومن قرأ بضم التاء ، رباعي فالصم : مفعول أول ، والدعاء : مفعول ثان . ومن قرأ : { مثقال } بضم اللام ، فكان تامة ، وبالنصب : خبر كان ، أي : وإن كان العمل المدلول عليه بوضع الموازين . يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } لهم يا محمد { إِنما أُنذِرُكُم } وأخوفكم من العذاب الذي تستعجلونه ، أو بالساعة الموعودة ، { بالوحي } القرآني الصادق ، الناطق بإتيانه ، وفظاعة شأنه ، أي : إنما شأني أن أُنذركم بالإخبار به ، لا بإتيانه فإنه مخالف للحكمة الإلهية إذ الإيمان برهاني لا عياني ، فإذا أَنذرتَهم فلا يسمع إنذارك إلا من سبقت له العناية ، دون من سبق له الشقاء ، ولذلك قال تعالى : { ولا يسمع الصمُّ الدعاءَ } أي : الإنذار ، أو لا تُسمع أنت الصمَّ الدعاءَ { إِذا ما يُنذَرُون } يُخوَّفون ، واللام في للعهد ، وهو إشارة إلى هؤلاء المنذرين ، والأصل : ولا يسمعون إنذارك إذا يُنذرون ، فوضع الظاهر موضع المضمر إشارة إلى تصاممهم وسد أسماعهم إذا أنذروا ، وتسجيلاً عليهم بذلك . وفي التعبير بالدعاء ، دون الكلام في الإنذار ، إشارة إلى تناهي صممهم في حال الإنذار ، فإن الدعاء من شأنه أن يكون بأصوات عالية مكررة مقارنة لهيئة دالة عليه ، فإذا لم يسمعوا ، مع هذه الحالة ، يكون صممهم في غايةٍ لا غاية ورائها . { ولَئِنْ مسّتْهم نفحةٌ } أي : دفعة يسيرة { من عذاب ربك } أي : كائنة منه ، { ليقولنَّ يا ويلنا إِنا كنا ظالمين } ، وهذا بيان لسرعة تأثيرهم من مجيء نفس العذاب ، إثر بيان عدم تأثرهم من مجرد الإخبار به ، لانهماكهم في الغفلة ، أي : والله لئن أصابهم أدنى شيء من هذا العذاب الذي يُنذرون به ، لذلوا ، ودَعوا بالويل على أنفسهم ، وأقروا بأنهم ظلموا أنفسهم حين تصامموا وأعرضوا . وقد بُولغ في الكلام ، حيث عبَّر بالمس والنفح لأن النفح يدل على القلة ، فأصل النفح : هبوب رائحة الشيء ، يُقال : نفحه بعطية ، إذا أعطاه شيئًا يسيرًا ، مع أن بناءها للمرة مؤكد لقلتها . ثم بيَّن ما يقع عند إتيان ما أنذروه ، فقال : { ونضع الموازينَ القِسْطَ } أي : نقيم الموازين العادلة التي تُوزن بها الأعمال ، وهو جمع ميزان ، وهو ما يوزن به الشيء ليُعرف كمِّيته . وعن الحسن : " هو ميزان له كفتان ولسان " ، وإنما جمع الموازين لتعظيم شأنها ، والوزن لصحائف الأعمال في قول ، وقيل : وضع الميزان كناية عن تحقيق العدل ، والجزاء على حسب الأعمال . وإفراد القسط لأنه مصدر وصف به للمبالغة ، كأنها في نفسها قسط ، أو على حذف مضاف ، أي : ذوات القسط . وقوله : { ليوم القيامة } أي : لأهل يوم القيامة ، أي : لأجلهم ، أو في يوم القيامة ، { فلا تُظلم نفسٌ شيئًا } من الظلم ، ولا تنقص حقًا من حقوقها ، بل يُؤتى كل ذي حق حقه ، إن خيرًا فخيرٌ ، وإن شرًّا فشر . { وإِن كان مثقالَ حبةٍ من خَرْدَلٍ } أي : وإن كان الشيء أو العمل مثقال حبة من خردل ، { أتينا بها } : أحضرناها وجازينا عليها ، وأنث ضمير المثقال لإضافته إلى حبة ، { وكفى بنا حاسبين } ، إذ لا مزيد على علمنا وعدلنا ، أو عالمين حافظين ، لأن من حسب شيئًا علمه وحفظه ، قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - . الإشارة : كان صلى الله عليه وسلم يُنذر الناس ويذكّرهم بالوحي التنزيلي ، وبقي خلفاؤه يذكرون بالوحي الإلهامي ، موافقُا للتنزيلي ، ولا يسمع وعظهم ويحضر مجالسهم إلا من سبقت له سابقة العناية ، وأما من انتكبت عنه العناية تنكب مجالسهم ، وتصامم عن وعظهم وتذكيرهم ، ولا يسمع الصمُّ الدعاء إذا ما ينذرون ، ولا يندمون إلا حين تنزل بهم الأهوال ، ولا ينفع الندم وقد جف القلم ، وذلك حين تُوضع موازين الأعمال ، فتثقل أعمال المخلصين ، وتخف أعمال المخلَّطين ، ولا تُوضع الموازين إلا لأهل النفوس الموجودة ، وأما من غاب عن نفسه في شهود محبوبه ، لفنائه في شهوده ، وانطوائه في وجوده ، فلا ينصب له ميزان إذ لا يشهد لنفسه حسًا ولا فعلاً ولا تركًا ، وإنما الفعل كله للواحد القهار . ويكون من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه . آمين . ثم شرع في تفصيل ما أجمل في قوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ } ، [ الأنبياء : 7 ] إلى قوله : { وَأَهْلَكْنَا ٱلْمُسْرفِينَ } [ الأنبيَاء : 9 ] .