Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 21, Ayat: 68-70)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قالوا حرِّقوه } أي : قال بعضهم لبعض ، لَمَّا عجزوا عن المحاججة ، وضاقت عليهم الحيل ، وعييت بهم العلل ، وهذا دَيْدنُ المبطل المحجوج ، إذا قُرعَت شبهه بالحجة القاطعة وافتضح ، لم يبق له حينئذ إلا المناصبة والمعاداة ، فناصبوا إبراهيم عليه السلام ، وقالوا حرِّقوه بالنار لأنه أشد العقوبات ، { وانصُروا آلهتكم } بالانتقام لها { إن كنتم فاعلين } للنصر ، أي : إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرًا مؤزرًا ، فاختاروا له أهول المعاقبات ، وهو الإحراق ، وإلاَّ فقد فرطتم في نصرتها ، والذي أشار بالإحراق نمرود ، أو رجل من أكراد فارس ، اسمه " هيزن " ، وقيل : " هدير " ، خسفت به الأرض ، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة . رُوِيَ أنهم ، لما أجمعوا على حرقه عليه السلام ، بنوا له حظيرة بكُوثَى - قرية من قرى الأنباط بالعراق - فجمعوا صلاب الحطب من أصناف الخشب ، مدة أربعين يومًا ، وقيل : شهرًا ، حتى إن المرأة تنذر : لَئِنْ أصابت حاجتها لتَحِطَبنَّ في نار إبراهيم . ثم أوقدوا نارًا عظيمة ، لا يكاد يحومُ حولها أحد ، حتى إن كانت الطير لتمرُ بها ، وهي في أقصى الجو فتحترق من شدة وهجها ، ولم يقدر أحد أن يقربها ، فلم يعلموا كيف يُلقونه عليه السلام فيها ، فأتى إبليس وعلمهم علمَ المنجنيق ، فعملوه . وقيل : صنعه لهم رجل من الأكراد ، فخسف الله تعالى به في الأرض مثل الآخر ، ثم عمدوا إلى إبراهيم عليه السلام ، فوضعوه فيه مغلولاً مقيدًا مجردًا ، فصاحت السماءُ والأرضُ ومن فيها من الملائكة : يا ربنا ، إبراهيم ، ليس في الأرض أحد يعبدك غيرُه ، يُحرق فيك ، فَأذَنْ لنا في نصرته ، فقال لهم : إن استغاث بواحد منكم فأغيثوه ، فرموا به فيها من مكان شاسع ، فقال له جبريل عليه السلام ، وهو في الهواء : ألك حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا . قال : فسل ربك . فقال : حسبي من سؤالي علمه بحالي ، فرفع همته عن الخلق ، واكتفى بالواحد الحق ، فجعل الله الخطيرةَ روضة . وهذا معنى قوله : { قلنا يا نار كوني بردًا وسلامًا على إِبراهيم } أي : كوني ذات برد وسلام ، أي : ابردي بردًا غير ضار . قال ابن عباس : لو لم يقل { وسلامًا } لمات إبراهيم من بردها ، ولم تبق يومئذ نار إلا طفئت ، ظنت أن الخطاب توجه لها ، فما انتفع أحد من أهل الأرض يومئذ بنار ، ولم تبق دابة إلا أتت تطفئ عنه النار ، إلا الوزغ . فلذلك أمر نبيُنا صلى الله عليه وسلم . بقتلها ، وسماها فويسقا . قال السدي : فأخذت الملائكة بضَبْعَي إبراهيم وأقعدوه على الأرض ، فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس . قال كعب : ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه . ورُوي أنه عليه السلام مكث فيها سبعة أيام ، وقيل : أربعين ، وقيل : خمسين ، والأول أقرب . قال إبراهيم عليه السلام : ما كنتُ أيامًا قط أنعم مني من الأيام التي كنتُ فيها . قال ابن بسار : وبعث الله تعالى ملك الظل فقعد إلى جنبه يُؤنسه ، قالوا : وبعث الله بقميص من حرير الجنة . قلت : وقد تقدم ذكره في سورة يوسف . وأتاه جبريل فقال : إن ربك يقول : أما علمت أن النار لا تضر أحبائي . فنظر نمرود من صرحه ، فأشرف عليه ، فرآه جالسًا في روضة مونقة ، ومعه جليسٌ على أحسن ما يكون من الهيئة ، والنار محيطة به ، فنادى : يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها ؟ قال : نعم ، قال : فاخرج ، فقام يمشي فخرج منها ، فاستقبله نمرود وعظَّمه . وقال : من الرجل الذي رأيتُه معك ؟ قال ذلك ملك الظل ، أرسله ربي ليؤنسني ، فقال : إني مُقرب إلى إلهك قربَانًا لِمَا رأيته من قدرته وعزته فيما صنع بك . فقال عليه السلام : لا يقبل الله منك ما دُمتَ على دينك هذا ، حتى تفارقه إلى ديني ، قال : لا استطيع ترك ملكي ، ولكن سأذبح له أربعة آلاف بقرة ، فذبحها ، وكف عن إبراهيم عليه السلام . قال شعيب الجبائي : أُلقِي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة ، وذبح إسحاق وهو ابن سبع سنين ، وولدته سارة وهي بنت تسعين سنة ، ولَمَّا علت ما أراد من ذبحه بقيت يومين وماتت في الثالث . هـ . وهذا كما ترى من أكبر المعجزات ، فإنَّ انقلاب النار هواء طيبًا ، وإن لم يكن بدعًا من قدرة الله ، لكنه من أكبر الخوارق ، واختلف في كيفية برودتها فقيل : إن الله تعالى أزال ما فيها من الحر والإحراق ، وقيل : دفع الله عن جسم إبراهيم حرها وإحراقها مع تَرْكِ ذلك فيها ، والله على كل شيء قدير . قال تعالى : { وأرادوا به كيدًا } مكرًا عظيمًا في الإضرار ، { فجعلناهم الأخسرين } أي : أخسر من كل خاسر ، حيث جاء سعيهم في إطفاء نور الحق برهانًا قاطعًا على أنه عليه السلام على الحق ، وهم على الباطل ، وموجبًا لارتفاع درجته واستحقاقهم للهلاك ، فأرسل الله على نمرود وقومه البعوض ، فأكلت لحومهم وشربت دماءهم ، ودخلت بعوضة في دماغ نمرود فأهلكته بعد المحنة الشديدة ، وبالله التوفيق . الإشارة : أجرى الله تعالى عادته في المتوجه الصادق ، إذا أراد الوصول إلى حضرته ، أن يبْتَليه قبل أن يُمكنه ، ويمتحنه قبل أن يُصافيه لأنَّ محبته تعالى مقرونة بالبلاء ، والداخل على الله منكور ، والراجع إلى الناس مبرور . فإذا رُمِيَ الولي في منجنيق الابتلاء ، وألقي في نار الجلال ، وتعرضت له الأكوان : ألك حاجة ؟ فيقول - إن كان مؤيَدًا - : أمَّا إليك فلا ، وأما إلى الله فبلى ، فإذا قيل له : سله ، فيقول : علمه بحالي يغني عن سؤالي . فلا جرم أن الله تعالى يقول لنار الجلال : كوني بردًا وسلامًا على وليي ، فينقلب حرها بردًا وسلامًا ، فلا يرى أيامًا أحلى من تلك الأيام التي ابتُلي فيها . وهذا أمر مجرب مَذُوق ، وأما إن التفت إلى التعلق بغير الله تعالى ، فإنَّ البلاء يُشدد عليه ، أو يخرج من دائرة الولاية ، والعياذ بالله . فالولي هو الذي يقلب الأعيان بهمته ، وبالنور الذي في قلبه ، حسية كانت أو معنوية ، فيقلب الخوف أمنًا ، والحزن سرورًا ، والقبض بسطًا ، والفاقة غنًى ، وهكذا … فحينئذ تنفعل له الأشياء وتطيعه ، وتخرق له العوائد ، حتى لو ألقي في النار الحسية لبردت . قال الورتجبي : كان الخليل منُورًا بنور الله ، وكان فعل النار من فعل الله ، فغلب نور الصفة على نور الفعل ، ولو بقيت النار حتى وصل إليها الخليل لصارت مضمحلة ، فعلم الحق ذلك ، فقال لها : { كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم } حتى تبقى لظهور معجزته وبيان كرامته . هـ . ومصداق ما ذكره : قول النار يوم القيامة للمؤمن : جُز فقد أطفأ نورك لهبي ، كما ورد . والله أعلم . ثمَّ ذكر هجرة إبراهيم إلى الشام :