Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 21, Ayat: 7-10)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحقّ جلّ جلاله في جواب قول الكفرة : { هَلْ هَـٰذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } [ الأنبيَاء : 3 ] بعد تقديم الجواب عن قولهم : { فليأتنا بآية } لأنهم قالوه بطريق التعجيز ، فلا بد من المسارعة إلى رده ، كما تقدم مرارًا في الكتاب العزيز ، كقوله : { إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللَّهُ … } [ هُود : 33 ] الآية ، { مَا نُنَزِّلُ ٱلْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِٱلحَقِّ } [ الحجر : 8 ] الآية . إلى غير ذلك ، فقال جلّ جلاله : { وما أرسلنا قَبلك } في الأمم السالفة { إِلا رجالاً } بشرًا من جنس القوم الذين أُرسلوا إليهم لأن مقتضى الحكمة أن يُرسل البشر إلى البشر ، والملَك إلى الملَك ، حسبما نطق به قوله تعالى : { قُل لَوْ كَانَ فِي ٱلأَرْضِ مَلاۤئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً } [ الإسرَاء : 95 ] ، فإن عامّة البشر لا تطيق المفاوضة مع الملك لتوقفها على التناسب بين المفاوض والمستفيض فبعث لكل جنس ما يناسبه للحكمة التي يدور عليها فلك التكوين والتشريع ، والذي تقتضيه الحكمة الإلهية أن يبعث الملك إلى خواص البشر المختصين بالنفوس الزكية ، المؤيدين بالقوة القدسية ، المتعلقين بالعالم الروحاني والجسماني ، ليتلَقوا من جانب العالم الروحاني ، ويلقوا إلى العالم الجسماني ، فبعث رجالاً من البشر يوحي إليهم على أيدي الملائكة أو بلا واسطة . والمعنى : وما أرسلنا إلى الأمم ، قبل إرسالك إلى أمتك ، إلا رجالاً مخصوصين من أفراد الجنس ، متأهلين للاصطفاء والإرسال ، { نوحي إليهم } ، بواسطة الملك ، ما يُوحى من الشرائع والأحكام ، وغيرهما من القصص والأخبار ، كما يُوحى إليك من غير فرق بينهما ، { فاسألوا أهل الذِّكر إٍن كنتم لا تعلمون } أي : فاسألوا ، أيها الجهلة ، أهلَ العلم كأهل الكتب الواقفين على أحوال الرسل السالفة - عليهم الصلاة والسلام - لتزول شبهتكم إن كنتم لا علم لكم بذلك . أُمروا بذلك لأن إخبار الجم الغفير يُوجب العلم الضروري ، لا سيما وهم كانوا يشايعون المشركين عداوته صلى الله عليه وسلم ، ويشاورونهم في أمورهم ، فإذا أخبروهم أن الرسل إنما كانوا بشرًا ، ولم يكونوا ملائكة ، حصل لهم العلم بالحق ، وقامت الحجة عليهم . وتوجيه الخطاب إلى الكفرة في السؤال ، بعد توجيهه إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - في الإرسال لأنه الحقيق بالخطاب في أمثال تلك العلوم والحقائق الأنيقة ، وأما الوقوفُ عليها باستخبار من الغير فهو من وظائف العوام . ثم بيَّن كون الرسل - عليهم الصلاة والسلام - أسوة لأفراد الجنس في أحكام البشرية ، فقال : { وما جعلناهم جسدًا } أي : أجسادًا ، فالإفراد لإرادة الجنس ، أو ذوي جسد ، { لا يأكلون الطعامَ } أي : وما جعلناهم أجسادًا صمدانيين ، أغنياء عن الطعام والشراب ، بل مُحتاجين إلى ذلك لتحقيق العبودية التي اقتضت شرفهم . { وما كانوا خالدين } لأن كل من يفتقر إلى الغذاء لا بدّ أن يتحلل بدنه بسرعة ، حسبما جرت العادة الإلهية ، والمراد بالخلود : المكث المديد ، كما هو شأن الملائكة أو الأبدية . وهم معتقدون أنهم كانوا يموتون . والمعنى : بل جعلناهم أجسادًا مفتقرة صائرة إلى الموت عند انقضاء آجالهم ، لا ملائكة ولا أجسادًا صمدانية . { ثم صَدَقْناهم الوعد } بالنصر وإهلاك أعدائهم ، وهو عطف على ما يُفْهَمُ من وحيه تعالى إليهم ، كأنه قيل : أوحينا إليهم ما أوحينا ، ثم صدقناهم في الوعد ، الذي وعدناهم في تضاعيف الوحي ، بإهلاك أعدائهم ، { فأنجيناهم ومَنْ نشاء } من المؤمنين وغيرهم ، ممن تستدعي الحكمة إبقاءه ، كمن سَيُؤمن هو أو بعض فروعه ، وهو السر في حماية العرب من عذاب الاستئصال . أو يخص هذا العموم بغير نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم فإن أمته لا تستأصل ، وإن بقي فيها من يكفر بالله لعل الله يُخرج من أصلابهم من يُوحد الله تعالى . { وأهلكنا المسرفين } أي : المجاوزين الحد في الكفر والمعاصي . ولمّا ذكر برهان حَقِّيَّةِ الرسول - عليه الصلاة والسلام - ذكر حقية القرآن المنزل عليه ، الذي ذكر في صدر السورة إعراض الناس عما يأتيهم من آياته ، فقال : { لقد أنزلنا إِليكم } ، صدّره بالقسم إظهارًا لمزيد الاعتناء بمضمونه ، وإيذانًا بكون المخاطبين في أقصى مراتب التنكير ، أي : والله لقد أنزلنا إليكم ، يا معشر قريش ، { كتابًا } عظيم الشأن نيّر البرهان . فالتنكير للتفخيم ، أي : كتابًا جليل القدر { فيه ذِكْرُكم } أي : شرفكم وحسن صيتكم ، كقوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزّخرُف : 44 ] ، أو فيه تذكيركم وموعظتكم ، أو ما تحتاجون إليه في أمر دينكم ودنياكم ، أو ما تطالبون به حسن الذكر والثناء من مكارم الأخلاق ، { أفلا تعقلون } فتتدبروا في معانيه حتى تُدركوا حقيته . فالهمزة للإنكار التوبيخي . وفيه حث لهم على التدبر في أمر الكتاب ، والتأمل في تضاعيفه من فنون المواعظ والزواجر ، التي من جملتها القوارع السابقة واللاحقة ، والمعطوف : محذوف ، أي : أَعَمِيَتْ بصائركم فلا تعقلون ؟ والله تعالى أعلم . الإشارة : ثبوت الخصوصية لا ينافي وصفَ البشرية ، فنسبة أهل الخصوصية من البشر كاليواقيت بين الحجر . ولا فرق بين خصوصية النبوة والولاية في الاتصاف بأوصاف البشرية ، التي لا تُؤدي إلى نقص في مراتبهم العلية . وتتميز خصوصية النبوة من الولاية بوحي الأحكام ، وتتميز خصوصية الولاية من العمومية بالتطهير من الرذائل والتحلي بالفضائل ، وبالغيبة عن رؤية الأكوان ، بإشراق شمس العرفان ، وذلك بالفناء عن الأثر بشهود المؤثِر ، ثم بالبقاء بشهود الأثر حكمةً ، مع الغيبة عنه ، قدرةً ، ولا يعرف هذا إلا أهل الذكر الحقيقي ، فلا يعرف مقام الأولياء إلا من دخل معهم ، ولا يُسأل عنهم إلا أمثالُهم { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] . فلا يشترط في الولي استغناؤه عن الطعام والشراب إذ لم يكن للأنبياء ، فكيف بالأولياء ؟ ولا استغناؤه عن النساء ، قال تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً } [ الرّعد : 38 ] ، نعم صاحب الخصوصية مالك لنفسه من غلبة الشهوة عليه ، ينزل إلى أرض الحظوظ بالإذن والتمكين ، والرسوخ في اليقين . جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه . وتقدم الكلام على قوله تعالى : { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ } في سورة النحل . وبالله التوفيق . ثمَّ بيِّن ما أجمل عن قوله : { وَأَهْلَكْنَا ٱلْمُسْرفِينَ }