Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 21, Ayat: 83-84)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكر خبر { أيوبَ } عليه السلام { إِذْ نادى ربَّه } : دعاه : { إني } أي : بأني { مسَّنيَ الضرُّ } وهو بالضم : ما يصيب النفس من مرض وهزال ، وبالفتح : الضرر في كل شيء ، { وأنت أرحمُ الراحمين } ، تلطف في السؤال حيث ذكر نفسَه بما يوجب الرحمة ، وذكر ربه بغاية الرحمة ، ولم يصرح بالمطلوب من كمال أدبه ، فكأنه قال : أنت أهل أن تَرحم ، وأيوب أهل أن يُرحَم ، فارحمه ، واكشف عنه ضره الذي مسه . عن أنس : أنه أخبر عن ضعفه حين لم يقدر على النهوض إلى الصلاة ، ولم يشتك ، وكيف يشكو ، والله تعالى يقول : { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ ٱلْعَبْدُ } [ ص : 44 ] . وقيل : إنما اشتكى إليه تلذذًا بالنجوى ، لا تضررًا بالشكوى ، والشكاية إليه غاية في القُرب ، كما أن الشكاية منه غاية في البُعد ، وسيأتي في الإشارة تكميله ، إن شاء الله . رُوي أن أيوب عليه السلام ، كان من الروم ، وهو أيوب بن أمُوص ابن تارَح بن رعويل بن عيص بن إسحاق . وكانت أمه من ولد لوط عليه السلام اصطفاه الله للنبوة والرسالة ، وبسط عليه الدنيا فكان له ثلاثة آلاف بعير ، وسبعة آلاف شاة ، وخمسمائة فدان ، يتبعها خمسمائة عبد ، لكل عبد امرأة وولد ، وكان له سبعة بنين ، وسبع بنات . قاله النسفي . زاد الثعلبي : وكانت له المشيئةُ من أرض الشام كلها ، وكان له فيها من صنوف المال ما لم يكن لأحد من الخيل والبقر والغنم والحُمُر وغيره ، وكان برًا تقيًا رحيمًا بالمساكين ، يكفل الأرامل والأيتام ، ويُكرم الضيف ، ويُبلغ ابن السبيل ، شاكرًا لأنعم الله ، لا يصيب منه إبليس ما يصيب من أهل الغنى من الغفلة والغِرَّة ، وكان معه ثلاثةً قد آمنوا به : رجل من اليمن واثنان من بلده ، كُهُولا . قال وهب : فسمع إبليس تَجَاوُبَ الملائكة بالصلاة عليه في السماء فحسده ، فقال : إلهي ، عبدك أيوب أنعمتَ عليه فشكرك ، وعافيته فحمدك ، ولم تجرّبه بشدّة ولا بلاء ، فلو جربته بالبلاء ليكفرنّ بك وبنعمتك ، فقال له تعالى : انطلق ، فقد سلطتك على ماله ، فجمع عفاريته وأخبرهم ، فقال عفريت من الجن : أُعطيتُ من القوة ما إذا تحوّلت إعصارًا من نار أحرقتُ كل شيء آتي عليه ، فقال له إبليس : دونك الإبل ورعاتها ، فجاءها حتى وثبت في مراعيها ، فأثار من تحت الأرض إعصارًا من نار فأحرقها وأحرق رعاءها . فلما فرغ منها تمثل إبليس براعيها ، وجلس على قَعُودٍ منها ، فأتاه ، وقال : يا أيوب ، إن ربك الذي عبدته قد أحرق إبلك ورُعَاءَها ، فقال أيوب : هو ماله ، أعارنيه ، يفعل فيه ما يشاء ، فرجع إبليس خاسئًا ، حين حمد أيوبُ ربه ، فقال عفريت آخر : عندي من القوة ما إذا صِحتُ لم يسمع صوتي ذو رُوح إلا خرجت روحه ، قال له إبليس : ائت الغنم ورعاءَها ، فأتى ، فصاح ، فصارت أمواتًا ورعاتها ، ثم خرج إبليس متمثلاً بقهرَمَان الرعاة ، فقال له كمقالته في الإبل ، فأجابه أيوب بمثل ما أجابه فيها ، فرجع خاسئًا ، فقال عفريت آخر : عندي من القوة ما إذا تحولتُ ريحًا عاصفًا نسفتُ كل شيء أتيت عليه ، قال إبليس : فأتِ الفدادين والحرث ، فجاءها ، فَهبَّتْ ريح عاصفة فنسفت كل شيء ، حتى كأنه لم يكن ثَمَّ شيء ، فخرج إبليس متمثلاً بقهْرَمَان الحرث ، فقال له مثل قوله الأول ، وردَّ عليه مثل رده ، حتى أتى على جميع ماله ، وأيوب يحمد الله تعالى . فقال إبليس : إلهي إن أيوب يقول : إنك ما متعْتَهُ إلا بنفسه وولده ، فهل تسلطني على ولده ، فإنها الفتنة ؟ قال الله تعالى : قد سلطتك على ولده ، فجاء إبليس فقلب عليهم القصر منكسين ، وانطلق إلى أيوب متمثلاً بالمُعلم الذي يُعلمهم الحكمة ، وهو جريح ، فقال : يا أيوب لو رأيت بنيك كيف عُذبوا ؟ ونُكِّسوا على رؤوسهم ، وسال دماغهم من أنوفهم ، فلم يزل من قوله حتى رقَّ أيوبُ وبكى ، وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه ، فصعد إبليس مسرورًا ، ثم ذهب أيوب ، فلما أبصر ذلك استغفر ، وصعد قرناؤه من الملائكة ، بتوبته فبادروا إلى الله تعالى ، وهو أعلم ، فوقف إبليس خاسئًا ، فقال : إلهي إنما هوّن أيوب خطر المال والولد ، فهل أنت مسلطي على جسده ، فإني لك زعيم إن سَلَّطَّني على جسده ليكفرنّ بك ، قال الله تعالى : قد سلطتك على جسده ، ولكن ليس لك سلطان على لسانه وقلبه وعقله ، فجاءه إبليس فوجده ساجدًا ، فجاء من قِبل الأرض ، فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده ، فَوهِلَ ، وخرج من قرنه إلى قدمه تآليل مثل آليَاتِ الغنم ، ووقعت به حكة لا يملكها ، فحك بأظفاره ، ثم بالمسُوح الخشنة ، ثم بالحجارة ، حتى نغل لحمه ، وتغير ، ونش ، وتدود ، فأخرجه أهل القرية ، وجعلوه على كناسة ، وجعلوا له عريشًا ، ورفضه الخلق كلهم ، إلا { رحمةً } امرأته بنت إفراثيم بن يوسف عليه السلام ، فقامت عليه بما يصلحه . روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ أيُّوبَ نبي الله لَبث به بَلاؤُه ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَة ، فَرَفَضه الْقَرِيبُ والبَعِيدُ " الحديث ، وقال كعب : سبع سنين ، وقيل : ثلاث عشرة سنة ، وما قاله - عليه الصلاة والسلام - إن ثبت ، هو الصحيح . وقال الحسن : مكث أيوب مطرودًا على كناسة ، في مزبلة بني إسرائيل سبع سنين وشهرًا ، يختلف فيه الدود . ويمكن الجمع بين الأقوال بأن الشدة كانت سبعًا والباقي مقدمات لها . رُوِيَ أن امرأته قالت له يومًا : لو دعوتَ الله عزّ وجلّ ؟ فقال لها : كم كانت مدة الرخاء ؟ قالت : ثمانين سنة . فقال : إني أستحيي من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي . هـ . ورُوي أن الدود أكل جميع جسده حتى بقي عظامًا نخرة ، وهو مع ذلك لا يفتر عن ذكر الله وحمده وشكره ، فصرخ إبليس صرخة ، وقال : أعياني هذا العبد الذي سألتُ ربي أن يسلطني عليه ، قالت له العفاريت : أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة ، ما أتيته إلا من قِبَلِ امرأته ، فتمثل بها بصورة رجل طيب ، وفي رواية الحسن : في هيئة ليست كهيئة بني آدم ، في أحسن صورة ، فقال لها : أين بعلك يا أمة الله ؟ فقالت : هو ذاك ، يحك قروحه ، ويتردد الدود في جسده ، فقال لها : أنا إله الأرض الذي صنعتُ بصاحبك ما صنعت لأنه عبد إله السماء وتركني ، فلو سجد لي سجدة واحدة لرددت لكما ما كان لكما . وقال وهب : قال لها : لو أكل طعامًا ولم يسمّ عليه لعُوفيَ من البلاء ، فأخبرت أيوب ، فقال : أتاك عدوُ الله ليفتنك عن دينك ، ثم أقسم ، إن عافه الله ، ليضربنها مائة ضربة . ثم حلف لا يأكل لها طعامًا ، فبقي مهملاً لا يأتي إليه أحد ، وقال عند ذلك : { مسّني الضر } من طمع إبليس في سجودي له ، { وأنت أرحم الراحمين } ، فقيل له : { اركض برجلك } فركض ، فنبعت عين ماء ، فاغتسل منها ، فلم يبق من دائه شيء ، وسقطت الدود من جسده ، وعاد شبابه وجماله . ثم ضرب برجله فنبعت عين أخرى ، فشرب منها ، فلم يبق في جوفه داء إلا خرج ، وكانت امرأته " رحمة " حين حلف ، تركته مدة ، ثم ندمت وعادت ، فوجدته في أحسن هيئة ، فلم تعرفه ، فقالت له : أين الرجل المبتلى الذي كان هنا ؟ قال : أنا هو ، شفاني الله ، ثم عرفته بضحكه ، فتعانقا ، ثم أمره الله تعالى أن يأخذ جماعة من القضبان فيضربها ضربة واحدة ليبرّ في يمينه . هـ . قلت : تسليط الشيطان على بشرية الأنبياء الظاهرة : جائز وواقع . وأما الأمراض المنفرة ، فإن كانت بعد التبليغ وتقرير الشرائع ، فجائز عند بعضهم ، وهو الصواب ، جمعًا بين ما ثبت في الأخبار عن السلف وبين الدلائل العقلية في تنزيه الأنبياء - عليهم السلام - ، لأن العلة هي تنفير الخلق عنهم ، وبَعْد التبليغ فلا يضر ، وقد ورد أن شُعيبًا عليه السلام عَمى في آخر عمره ، وكذلك يعقوب ، وكان بعد تبليغ الرسالة ، فلم يضر . ثم قال تعالى في حق أيوب عليه السلام : { فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضُرّ } إنعامًا عليه ، فلمّا قام من مرضه جعل يلتفت فلا يرى شيئًا مما كان له من الأهل ، والمال ، ثم أحيا الله أولاده بأعيانهم ، ورزقه مثلهم ، ورد عليه ماله ، بأن أخلف له مثله ، وذلك قوله تعالى : { وآتيناه أهلَه ومثلهم معهم } وقيل : كان ذلك بأن ولد له ضعف ما كان له . وقال عكرمة : آتيناه أهله في الآخرة ، ومثلهم معهم في الدنيا ، والأول هو ظاهر الآية ، ردهم الله تعالى بأعيانهم إظهارًا لكمال قدرته تعالى . ثم قال { رحمةً من عندنا } : مفعول من أجله ، أي : آتينا ما ذكر لرحمتنا أيوب ، { وذكرى للعابدين } أي : وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر ، ويُثابوا كما أُثيب ، أو لرحمتنا العابدين ، الذين من جملتهم أيوب ، وذكرنا إياهم بالإحسان ، وعدم نسياننا لهم . والله تعالى أعلم . الإشارة : ما ينزل بالمؤمن من الأوجاع والأسقام والشدائد والنوائب ، في النفس أو في الأهل ، كله رحمة ، عظيمة ، ومنَّة جسيمة ، ويقاس عليه : مفارقة الأحباب والأوطان ومشاق الأسفار والمتاعب البدنية ، ويُسمى عند الصوفية : التعرفات الجلالية لأن الله تعالى يتعرف إليهم بها ليعرفوه عيانًا ، ولذلك تجدهم يفرحون بها ، وينبسطون عند ورودها لما يتنسمون فيها ، ويجدون بعدها ، من مزيد الاقتراب وكشف الحجاب ، وطي مسافة البُعد بينهم وبين رب الأرباب ، فهم يؤثرونها على الأعمال الظاهرة لِمَا يتحققون بها من وجود الأعمال الباطنية كالصبر والزهد والرضا والتسليم ، وما ينشأ عنها ، عند ترقيق البشرية ، من تشحيذ الفكرة والنظرة ، وغير ذلك من أعمال القلوب . وفي الحكم : " إذا فتح لك وجهة من التعرف ، فلا تُبالي معها إن قلَّ عملك فإنه ما فتحها لك إلاَّ وهو يريد أن يتعرف إليك منها ، ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك ، والأعمال أنت مهديها إليه ، وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك ؟ " . قال الشيخ ابن عباد رضي الله عنه : معرفة الله تعالى هي غاية المطالب ، ونهاية الأماني والمآرب ، فإذا واجه اللهُ عبده ببعض أسبابها ، وفتح له باب التعرّف له منها ، فذلك من النعم الجزيلة عليه ، فينبغي ألا يكترث بما يفوته بسبب ذلك من أعمال البر ، وما يترتب عليها من جزيل الأجر ، وليعلم أنه سلك به مسلك الخاصة المقرّبين ، المؤدي إلى حقائق التوحيد واليقين ، من غير اكتساب من العبد ولا تَعَمُّلٍ ، والأعمالُ التي من شأنها أن يتلبس بها هي باكتسابه وتعمله ، وقد لا يسلم من دخول الآفات عليها ، والمطالبة بوجود الإخلاص فيها ، وقد لا يحصل له ما أمّله من الثواب عند مناقشة الحساب ، وأين أحدهما من الآخرة . ومثاله : ما يُصاب به الإنسان من البلايا والشدائد التي تُنَغِّصُ عليه لذات الدنيا ، وتمنعه من كثير من أعمال البر ، فإنَّ مرادَ العبد أن يستمر بقاؤه في الدنيا ، طيَّبَ العيش ناعمَ البال ، ويكون حاله في طلب سعادة الاخرة حال المترفين فلا تسخو نفسه إلا بالأعمال الظاهرة ، التي لا كثير مُؤْنَةٍ عليه فيها ولا مشقة ، ولا تقطع عنه لذة ، ولا يفوته شهوة ، ومراد الله منه أن يُطهره من أخلاقه اللئيمة ، ويحول بينه وبين صفاته الذميمة ، ويُخرجه من أَسْرِ وجوده إلى متسع شهوده ، ولا سبيل إلى الوصول إلى هذا المقام على غاية الكمال والتمام ، إلا بما يُضادُ مراده ، ويشوّش عليه معتادَه ، وتكون حاله حينئذ المعاملة بالباطن ، ولا مناسبة بينها وبين الأعمال الظاهرة ، فإذا فَهِمَ هذا عَلِمَ أن اختيار الله له ، ومرادَه منه ، خيرٌ من اختياره لنفسه ومراده لها . وقد رُوِيَ أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه : " إني إذا أنزلت بعبدي بلائي ، فدعاني ، فماطلتُه بالإجابة ، فشكاني ، قلت : عبدي كيف أرحمك من شيء به أرحمك " ؟ وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تعالى : إذا ابتليت عبدي المؤمن فلم يشكني إلى عُوّاده ، أنشطته من عقالي ، وبدَّلته لحمًا خيرًا من لحمه ، ودمًا خيرًا من دمه ، ويستأنف العمل " ثم نقل عن أبي العباس ابن العريف رضي الله عنه قال : كان رجل بالمغرب يُدعى أبا الخيَّار ، وقد عمّ جسده الجذامُ ، ورائحة المسك تُوجد منه على مسافة بعيدة ، لقيه بعضُ الناس ، فقال له : يا سيدي كأن الله تعالى لم يجد للبلاء مَحلاً من أعدائه حتى أنزله بكم ، وأنتم خاصة أوليائه ! ! فقال لي : اسكت ، لا تقل ذلك لأنا لمّا أشرفنا على خزائن العطاء ، لم نجد عند الله أشرف ولا أقرب من البلاء ، فسألناه إِيّاه ، وكيف بك لو رأيت سيّد الزهّاد ، وقطبَ العباد ، وإمام الأولياء والأوتاد ، في غار بأرض طرطوس وجبالها ، ولحمُه يتناثر ، وجلده يسيل قيحًا وصديدًا ، وقد أحاط به الذباب والنمل ، فإذا كان الليل لم يقنع بذكر الله وشكره على ما أعطاه من الرحمة ، حتى يشدّ نفسه بالحديد ، ويستقبل القبلة عامَّةَ ليله حتى يطلع الفجر . هـ . وقد تكلم الصوفية في قول أيوب عليه السلام : { مسّني الضر } هل شكى ضرر جسمه ، أو ضرر قلبه من جهة دينه ؟ قال بعضهم : قيل : إنه أراد النهوضِ إلى الصلاة فلم يستطع ، فقال : { مسّني الضر } ، وقيل : إنه أكل الدود جميع جسده ، حتى بقي عظامًا ، فلما قصد الدودُ قلبَه ولسانَه غار على قلبه لأنه موضع المعرفة والتوحيد ، والنبوة والولاية ، وأسرار الله تعالى ، وخاف انقطاع الذكر ، فقال : { مسّني الضر } ، وقيل : خاف تبدد همه وتفرق قلبه ، وليس في العقوبة شيء أشد من تبدد الهم ، فتارة يقول : لعلي ببلائي مُعاقب ، وتارة يقول : بضري مُستدرج ، فلما خاف تشتيت خاطِره عليه ، قال : { مسّني الضر } . هـ . قلت : هذا المقام لا يليق بالأنبياء ، وإنما يجوز على غيرهم إذ الأولياء يترقون عن هذا المقام فكيف بالأنبياء ! وقال بعضهم : قال : مسني الضر من شماتة الأعداء ، واقتصر عليه ابنُ جُزي ، وفيه شيء إذ كثير من الأولياء سقط الناس من عينهم ، فلا يُبالون بخيرهم ولا شرهم ، ولا مدحهم ولا ذمهم ، فكيف بالأنبياء - عليهم السلام - ؟ ! وقال القشيري " كان ذلك منه إظهارًا للعجز ، لا اعتراضًا ، فلا يُنافي الصبر ، مع ما فيه من التنفيس عن الضعفاء من الأمة ، ليكون أسوة . وقال : إن جبريل أمره بذلك ، وقال له : إن الله يغضبُ إن لم يُسأل ، وسيان عنده البلاء والعافية ، فسَله العافية . ويقال : إن أيوب كان مُكَاشَفًا بالحقيقة ، مأخوذًا عنه ، وكان لا يُحِسُّ بالبلاء ، فَسَتَر عليه ، فردَّه إليه ، فقال : مَسني الضُّرُّ ، وقيل : أَدْخَل على أيوب تلك الحالة ، فاستخرج منه تلك المقالة ليظهر عليه سمة العبودية . هـ . وقال الورتجبي : سُئل الجنيد عن قوله : { مسّني الضر } ، فقال عرّفه فاقة السؤال ، ليمنّ عليه بكرم النوال ، وفي الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه جاء إليه رجل فسأله عن قول أيوب { مسّني الضر } فبكى - عليه الصلاة والسلام - وقال : والذي بعثني بالحق نبيًا ما شكى فقرًا نزل من ربه ، ولكن كان في بلائه سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات ، فلما كان في بعض الساعات وثب ليُصلي ، فلم يستطع النهوض ، فقال : { مسني الضر } الخ . ثم قال : - عليه الصلاة والسلام - : أكل الدود عامة جسده حتى بقي عظامًا نخرة ، فكادت الشمس تطلع من قُبله وتخرج من دُبره ، وما بقي إلا قلبه ولسانه ، وكان قلبه لا يخلو من ذكر الله ، ولسانه لا يخلو من ثنائه على ربه ، فلما أحب الله له الفرج ، بعث إليه الدودتين إحداهما إلى لسانه والأخرى إلى قلبه ، فقال : يا رب ما بقي إلا هاتان الجارحتان ، أذكرك بهما ، فأقبلت هاتان الدودتان إليهما ليشغلاني عنك ويطلعان على سري ، مسني الضر وأنت أرحم الراحمين . هـ . وفي قوله تعالى : { رحمة من عندنا وذكرى للعابدين } : تسلية لمن أصيب بشيء من هذه التعرفات الجلالية ، وقد تقدم في أول الإشارة الكلام على هذا . والله تعالى أعلم . ثمَّ ذكر ما بقي من مشاهير الأنبياء