Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 21, Ayat: 78-82)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { وداود } : عطف على { نوحًا } ، أو معمول لاذكر ، و { إذ يحكمان } : ظرف للمضاف المقدر ، أي : اذكر خبرهما ، و { إذ نفشت } : ظرف للحكم . { ففهمناها } : عطف على { يحكمان } فإنه في حكم الماضي . يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكر خبر { داودَ وسليمانَ إِذْ يحكمان } أي : وقت حكمهما { في الحرث } أي : في الزرع ، أو في الكرم المتدلي عناقيده ، والحرث يطلق عليهما ، { إِذ نَفَشَتْ } : دخلت { فيه غنمُ القوم } فأفسدته ليلاً ، فالنفش : الرعي بالليل ، والهمَلُ بالنهار ، وهما الرعي بلا راع . { وكنا لحُكمِهم } أي : لهما وللمتحاكمين إليهما ، أو على أنَّ أقل الجمع اثنان ، { شاهدين } ، كان ذلك بعلمنا ومرأى منا ، لم يغب عنا شيء منه ، { ففهمناها } أي : الحكومة ، أو الفتوى ، { سليمانَ } ، وفيه دليل على أن الصواب كان مع سليمان . وقصتهما على ما قال ابن عباس وغيره : أن رجلين دخلا على داود عليه السلام أحدهما : صاحب حرث ، والآخر صاحب غنم ، فقال صاحب الزرع : إنَّ هذا نفشت غنمه ليلاً ، فوقعت في حرثي ، فلم تُبق منه شيئًا ، فقال له داود : اذهب فإن الغنم لك ، ولعله استوت قيمتاهما - أي : قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث - فخرج الرجلان على سليمان ، وهو بالباب ، وكان ابن إحدى عشرة سنة ، فأخبراه بما حكم به أبوه ، فدخل عليه ، فقال : يا نبي الله لو حكمت بغير هذا لكان أرفق بالفريقين ، قال : وما هو ؟ قال : يأخذ صاحبُ الغنم الأرضَ ليُصلحها ، حتى يعود زرعها كما كان ، ويأخذ صاحب الزرع الغنمَ ينتفع بألبانها وصوفها ونسلها ، فإذا كمل الزرع ، رُدت الغنم إلى صاحبها ، والأرض بزرعها إلى ربها ، فقال داود : وُفقت يا بُني ، وقضى بينهم بذلك . والذي يظهر : أن حكمهما - عليهما السلام - كان باجتهاد ، ففيه دليل على أن الأنبياء يجتهدون فيما لم ينزل فيه وحي ، فإنَّ قول سليمان عليه السلام : " هذا أرفق " ، وقوله : " أرى أن تدفع … " الخ ، صريح في أنه ليس بطريق الوحي ، وإلا لبت القول بذلك ، ولعله وجه حكم داود عليه السلام قياس ذلك على جناية العبد ، فإنَّ العبد فيما جنى . وإذا قلنا : كان بوحي ، يكون حكم سليمان ناسخًا لحكم داود عليه السلام . وأما حُكْم إفساد المواشي للزرع في شرعنا : فقال مالك والشافعي : يضمن أربابُ المواشي ما أفسدت بالليل دون النهار للحديث الوارد في ذلك ، على تفصيل في مذهب مالك فيما أفسدت بالنهار . وقال أبو حنيفة : لا يضمن ما أفسدت بالليل ولا بالنهار لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " العَجْماءُ جُرْحُها جُبَار " ، ما لم يكن معها سائق أو قائد ، فيضمن عنده . قال تعالى : { وكُلاًّ آتينا حُكمًا وعلمًا } أي : كل واحد منهما آتيناه حكمًا ، أي : نبوة ، وعلمًا : معرفة بمواجب الحكم ، لا سليمان وحده . وفيه دليل على أن خطأ المجتهد لا يقدح في علمه ولا يرفع عنه صفة الاجتهاد . ثم بيَّن ما اختص به كل واحد منهما من المعجزات ، فقال : { وسخَّرنا } أي : ذللنا { مع داود الجبالَ } ، حال كونها { يُسَبِّحْنَ } أي : مسبحات ينزهْنَ الله تعالى بلسان المقال ، كما سبّح الحصا في كف نبينا عليه الصلاة والسلام . { و } سخرنا له { الطير } كانت تسبح معه . وقدَّم الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أغرب وأدخل في الإعجاز لأنها جماد . قال الكواشي : كان داود إذا سبّح سبّح معه الجبالُ والطير ، وكان يفهم تسبيح الحجر والشجر ، وكان إذا فتَر من التسبيح ، يُسمعه الله تعالى تسبيح الجبال والطير لينشط في التسبيح ويشتاق إليه . ورُوي أنه كان إذا سار سارت الجبال معه مسبحة ، قال قتادة : " يُسبحن " ، أي : يصلين معه إذا صلى ، وهذا غير ممتنع في قدرة الله تعالى . وفي الأثر : " كان داود يمرُّ ، وصِفَاح الروحاءُ تجاوبه ، والطير تساعده " . { وكنا فاعلين } بالأنبياء أمثال هذا وأكثر ، فليس ذلك ببدع منا ولا صعب على قدرتنا . { وعلّمناه صنعةَ لَبُوسٍ } أي : صنعة الدروع . واللبوس لغة في اللباس ، والمراد : الدرع ، { لكم } أي : نافع لكم ، { ليُحْصِنَكُم } أي : اللبوس ، أو داود . وقرئ بالتأنيث ، أي : الصنعة ، أو اللبوس بتأويل الدرع . وقرئ بنون العظمة ، أي : الله تعالى ، وهو بدل اشتمال من " لكم " . وقوله : { من بأسكم } أي : من حرب عدوكم ، أو من وقع السلاح فيكم ، { فهل أنتم شاكرون } الله على ذلك ؟ وهو استفهام بمعنى الأمر للمبالغة والتقريع . ثم ذكر ما اختص به سليمان عليه السلام فقال : { ولسليمان الريحَ } أي : وسخرنا له الريح . وإيراد اللام هنا ، دون الأولى للدلالة على ما بين التسخيرين من التفاوت ، فإن تسخير ما سخر لسليمان عليه السلام كان بطريق الانقياد الكلي والامتثال لأمره ونهيه ، بخلاف تسخير الجبال ، لم يكن بهذه المثابة ، بل بطريق التبعية والاقتداء . حال كون الريح { عاصفةً } شديدة الهبوب ، من حيث إنها كانت تقطع مسافة بعيدة في مدة يسيرة ، وكانت رُخاء في نفسها ، طيبة ، وقيل : كانت رُخاء تارة ، وعاصفة أخرى ، على حسب ما أراد منها . أو رُخاء في ذهابه وعاصفة في رجوعه لأن عادة المسافرين : الإسراع في الرجوع ، أو عاصفة إذا رفعت البساط ورخاء إذا جرت به . { تجري بأمره } بمشيئة سليمان ، { إِلى الأرض التي باركنا فيها } بكثرة الأنهار والأشجار والثمار ، وهي الشام . وكان منزله بها ، وتحمله إلى نواحيها . قال وهب : كان سليمان إذا خرج من منزله عكفت عليه الطير ، وقام له الجن والإنس حتى يجلس على سريره ، وكان غزّاءً لا يقصر عن الغزو ، فإذا أراد غزوًا أمر فضرب له بخشب ، ثم يُنصب له على الخشب ، ثم حَمَلَ عليه الناس والدواب وآلة الحرب ، فإذا حمل معه ما يريد أمر العاصف فدخلت تحت الخشب فاحتملته ، فإذا استقلت ، أمر الرخاء فمرت به شهرًا في روحته وشهرًا في غدوته ، إلى حيث أراد . هـ . { وكُنَّا بكل شيء عالمين } أي : أحاط علمنا بكل شيء ، فنُجري الأشياء على ما سبق به علمنا ، واقتضته حكمتنا . { ومن الشياطين } ، قيل : لمَّا ذكر تسخير الريح - وهي شفافة لا تعقل - ذكر ما هو شفاف يعقل ، وهم الشياطين ، مع سرعة الحركة في الكل ، أي : وسخرنا له من الشياطين { مَن يغوصون } في البحار ، ويستخرجون { له } من نفائسه ، كالدر والياقوت ، { ويعملون عملاً دون ذلك } أي : غير ما ذكر من بناء المدن والقصور والمحاريب والتماثيل والقدور الراسيات ، وقيل : الحمام ، والنورة ، والطاحون ، والقوارير ، والصابون ، مما استخرجوه له ، { وكنا لهم حافظين } أن يزيغوا عن أمره ، أو يُبدلوا ، أو يوجد منهم فساد فيما هم مسخرون فيه ، على ما هو مقتضى جبلتهم . وقال الزجاج : كان يحفظهم من أن يُفسدوا ما عملوا ، وكان دأبهم أن يُفسدوا بالليل ما عملوه بالنهار . وقيل : وكَّل بهم جمعًا من الملائكة ، وجمعًا من مؤمني الجن . رُوي أن المُسَخَّر له عليه السلام : كفارهم ، لا مؤمنهم لقوله تعالى : { ومن الشياطين } . والله تعالى أعلم . الإشارة : قوله تعالى : { ففهمناها سليمان } ، قال الورتجبي : بيَّن ، سبحانه ، أن الفضل متعلق بفضله ، لا يتعلق بالصغر والكبر والشيخوخة والاكتساب والتعلم ، إنما الفهم تعريف الله أحكام ربوبيته بنور هدايته ، وإبراز لطائف علومه الغيبية ، فحيث يظهر ذلك فهناك مواضع الفهوم من العلوم ، فهو سبحانه منَّ على سليمان بعلمه ، ولم يمنّ عليه بشيء خارج عن نفسه من الملك ، والحدثان أفضل من العلم فإنَّ العلم صفة من صفاته تعالى ، فلمَّا جعله متصفًا بصفاته منَّ عليه بجلال كبريائه . هـ . وقال في قوله : { وكُلاًّ آتينا حُكمًا وعلمًا } : حُكمًا معرفة بالربوبية ، وعلمًا بالعبودية . هـ . وقوله تعالى : { وسخرنا مع داود الجبال … } الخ . { ولسليمان الريح … } الآية ، لمّا كانا - عليهما السلام - مع المُكَوِّنِ كانت الأكوان معهما ، " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون ، فإذا شهدته كانت الأكوان معك " ، وذكر في القوت : أن سليمان عليه السلام لبس ذات يوم قميصًا رفيعًا جديدًا ، ثم ركب البساط ، وحملته الريح ، فبينما هو يسير إذ نظر إلى عطفه نظرةً ، فأنزلته الريح ، فقال : لِم أنزلتني ولم آمرك ؟ ! فقالت : نطيعك إذا أطعت الله ، ونعصيك إذا عَصَيْتَه . فاستغفر وحملته . هـ بالمعنى . والله تعالى أعلم . ثمَّ ذكر أيوب عليه السلام