Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 22, Ayat: 25-26)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : خبر { إن } : محذوف ، يدل عليه ما بعده ، أي : الذين كفروا نذيقهم من عذاب أليم لأنه إذا كان الملحِدُ في الحرم مُعَدَّبًا فالجامع بين الكفر والصد أَولى . ومن رفع { سواء } جعله خبرًا مقدمًا . و { العاكف } : مبتدأ . ومن نصبه : جعله مفعولَ { جعل } ، و { العاكف } فاعل به . يقول الحقّ جلّ جلاله : { إِن الذين كفروا ويَصدون } الناس { عن سبيل الله } ، أي : واستمروا على الصد ، ولذلك حسن عطفه على الماضي ، { و } يصدون أيضًا عن { المسجد الحرام } والدخول فيه ، كأهل مكة مع المسلمين ، { الذي جعلناه للناس } أي : مقامًا ومسكنًا للناس ، كائنًا من كان ، لا فرق فيه بين مكي وآفاقي ، وضعيف وقوي ، حاضر وباد . فإن أُريد بالمسجد الحرام " مكة " ، ففيه دليل على أن دور مكة لا تُباع ، وأن الناس فيها سواء ، فيجوز للقادم أن ينزل منها حيث شاء ، وليس لأحد فيها مِلك . وبه قال أبو حنيفة . وقال مالك وغيره : ليست الدور فيها كالمسجد ، بل هي مُتَمَلَّكَةٌ . وإن أريد به البيت كان نصًا في إباحته لجميع المؤمنين . وهو مجمع عليه . { سواءً العاكفُ فيه } أي : مستوٍ المقيم فيه { والباد } ، أي : المسافر من أهل البادية ، { من يُرِدْ فيه } أي : في المسجد ، إحداث شيء { بإِلحادٍ } أي : بسبب ميل عن القصد ، { بظُلم } ، وهما حالان مترادفان ، أي : ومن يرد فيه إحداث شيء مائلاً عن الحق ، ظالمًا فيه ، { نذِقْهُ من عذابٍ أليم } في الآخرة . وكل من ارتكب فيه ذنبًا فهو كذلك . { و } اذكر يا محمد { إِذْ بوّأنا } : حين هيأنا { لإبراهيم مكانَ البيت } وعيناه له ، حتى بناه في مكانه مسامتًا للبيت المعمور ، حيث كان بناه آدم عليه السلام ، وقد كان رُفع إلى السماء الرابعة ، أيام الطوفان ، وكان من ياقوتة حمراء ، فأعلم اللهُ إبراهيم مكانه ، بريح أرسلها ، يقال لها : الخَجُوح ، فكنست مكان البيت ، وقيل : سحابة على قدر البيت ، وقيل : كلمته ، وقالت له : ابنِ على قَدري . هـ . فبناه على أساسه القديم ، وفي ابن حجر : أنه جعل طوله في السماء تسعة أذرع ، ودوره في الأرض ثلاثين ذراعًا بذراعه . وأدخل الحِجْر في البيت ، وكان قبل ذلك لغنم إسماعيل . وبنى الحجارة بعضها على بعض ، أي : بلا تراب ، ولم يجعل له سقفًا ، وحفر له بئرًا ، عند بابه خزانة للبيت ، يُلقي ما يهدى له . هـ . رُوِيَ أن الكعبة الشريفة بُنيت خمس مرات ، إحداها : بنتها الملائكة ، وكانت من ياقوتة حمراء ، ثم رُفعت أيام الطوفان . والثانية : بناها إبراهيم عليه السلام ، وقيل : إن جُرهم كانت بنتها قبله ، ثم هدمت ، ويدل عليه : التجاء عادٍ إليها ، حين نزل بهم القحط . فأرسل الله عليهم الريح ، وكان ذلك قبل إبراهيم عليه السلام ، والثالثة : بنتها قريش ، وقد حضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة . والرابعة : بناها ابن الزبير ، والخامسة : الحجاج . ثم قال تعالى : { أن لا تُشرك } أي : وقلنا له : ألا تشرك { بي شيئًا } ، بل خلص عملك في بنائها وغيره ، من شوائب حظ النفس ، عاجلاً وآجلاً ، لا طَمَعًا في جزاء ، ولا خوفًا من عقوبة ، بل محبة وشكرًا وعبودية . قال القشيري : أي : لا تلاحظ البيت ولا بنيانك . هـ . وقيل : في الآية طعن على من أشرك من قُطَّان البيت ، أي : هذا الشرط كان على أبيكم فمَنْ بعده وأنتم ، فلم تقبلوه ، بل أشركتم وصددتم وألحدتم ، فاستحققتم التوبيخ والذم على سلوككم على غير طريق أبيكم . { وطهِّرْ بيتيَ } من الأصنام والأقذار ، { للطائفين } به { والقائمين } للصلاة فيه ، أو المقيمين فيه ، { والركَّع السجود } أي : المصلين ، جمعًا من راكع وساجد . والله تعالى أعلم . الإشارة : إن الذين كفروا بطريق الخصوصية ، ويصدون الناس عن الدخول فيها ، ويُعوقونهم عن مسجد الحضرة ، الذي جعله للناس محلاً تسكن فيه قلوبهم ، وتعشش فيه أرواحهم . فكل من قصده وباع نفسه وقلبه لله ، وصله ودخله ، وهو محل المشاهدة والمكالمة ، والمساررة والمناجاة ، محل شهود الحبيب والمساررة مع القريب ، محل نزهة الأفكار في فضاء الشهود والاستبصار ، فمن عاق عنها نُذقه من عذاب أليم . وقوله تعالى : { سواء العاكفُ فيه الباد } ، قال القشيري : فيه إشارة إلى أن التفاوت إنما يكون في الطريق ، وأما بعد الوصول ، فلا تفاوت . ثم إذا اجتمعت النفوس ، فالموضع الواحد مجمعها ، ولكن لكلٍّ حالٌ يُعرف به . هـ . قلت : مقام التوحيد الخاص ، وهو الفناء ، هو محل الاجتماع ، وتتفاوت بعد ذلك أذواقهم ومواجيدهم ، وازدياد كشوفاتهم وترقياتهم ، تفاوتًا بعيدًا ، على حسب التفرغ والانقطاع ، والتأهب والاتباع ، حسبما سبقت به القسمة الأزلية . وقال الورتجبي ، على قوله تعالى : { وإذ بوأنا … } الآية : هيأ لخليله وجميع أحبائه بيته ، ودلَّه إلى ما فيه من الكرامات والآيات ، وما ألبسه من أنوار حضرته ليكون وسيلة لعبادته ، ومرآة لأنوار آياته . هـ . قلت : الإشارة بالبيت إلى القلب لأنه بيت الرب ، أي : هيأنا لإبراهيم مكان قلبه لمشاهدة أسرار جبروتنا وأنوار ملكوتنا ، ليكون من المُوقنين بشهود ذاتنا ، وقلنا له : لا تشرك بنا شيئًا من السِّوى ، ولا ترى معنا غيرنا ، وطهِّر بيتي ، الذي هو القلب ، من الأغيار والأكدار ، ليكون محلاً للطائفين به من الواردات والأنوار ، والعاكفين فيه من المشاهدات والأسرار ، والركع السجود من القلوب التي تواجهك بالتعظيم والانكسار ، فإنَّ قلبَ العارف كعبة للواردات والأسرار ، ومحل حج قلوب الصالحين والأبرار . وفي بعض الأثر : " يا داود طهر لي بيتًا أسكنه ، فقال : يا رب … وأيُّ بيت يسعك ؟ فقال : لم يسعني أرضي ولا سمائي . ووسعني قلب عبدي المؤمن " . وفيه عند أهل الحديث كلام . ووسعه للربوبية بالعلم والمعرفة الخاصة . والله تعالى أعلم . ولما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت …