Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 22, Ayat: 32-37)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحقّ جلّ جلاله : { ذلك } أي : الأمر ذلك ، أو امتثلوا ذلك ، { ومن يُعَظِّمْ شعائرَ الله } أي : الهدايا ، فإنها معالم الدين وشعائره تعالى ، كما يُنبئ عنه : { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله } وتعظيمها : اعتقاد التقرب بها ، وأن يختارها سِمَانًا حسانًا غالية الأثمان ، رُوي " أنه صلى الله عليه وسلم أَهْدَى مِائَةَ بَدَنَةِ ، فِيهَا جَمَلٌ لأَبِي جَهْلٍ ، في أنْفِهِ بُرَةٌ مِنْ ذَهَب " . وأن عمر رضي الله عنه - أهدى نجيبة طُلبت منه بثلاثمائة دينار - . وقيل : شعائر الله : مواضع الحج ، كعرفة ومنى والمزدلفة . وتعظيمها : إجلالها وتوقيرها ، والتقصد إليها . وقيل : الشعائر : أمور الدين على الإطلاق ، وتعظيمها : القيام بها ومراعاة آدابها . { فإِنها } أي : فإن تعظيمها { من تقوى القلوب } أي : من أفعال ذوي تقوى القلوب ، فحذفت هذه المضافات . أو فإن تعظيمها ناشئ من تقوى القلوب لأنها مراكز التقوى . { لكم فيها منافع } من الركوب عند الحاجة ، ولبنها عند الضرورة ، { إِلى أجل مسمى } إلى أن تُنحر . ومن قال : شعائر الله : مواضع الحج ، فالمنافع : التجارة فيها والأجر ، والأجل المسمى : الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة . { ثم مَحِلُّها } منتهية { إِلى البيت العتيق } ، قال ابن جزي : من قال : إن الشعائر الهدايا ، فمحلها موضع نحرها ، وهي مِنى ومكة . وخصّ البيت بالذكر لأنه أشرف الحرم ، وهو المقصود بالهدي . و " ثم " ، على هذا ، ليست للترتيب في الزمان لأن محلها قبل نحرها ، وإنما هي لترتيب الجمل . ومن قال : إن الشعائر مواضع الحج ، فمحلها مأخوذ من إحلال المحرم ، أي : آخر ذلك كله : الطواف بالبيت ، أي : طواف الإفاضة إذ به يحل المحرم . هـ . أي : محل شعائر الحج كلها تنتهي إلى الطواف بالبيت ، طواف الإفاضة . ومثله في الموطأ . { ولكلِّ أمة } جماعة مؤمنة قبلكم ، { جعلنا منسَكًا } أي : مُتَعبدًا وقربانًا يتقربون به إلى الله - عزّ وجلّ - والمنسك - بالفتح - : مصدر ، وبالكسر : اسم موضع النُسك ، أي : لكلٍّ حعلنا عبادة يتعبدون بها ، أو موضع قربان ، يذبحون فيه مناسكهم ، { ليذكروا اسمَ الله } دون غيره ، { على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } أي : عند نحرها وذبحها ، { فإِلهكم إِلهٌ واحدٌ } أي : اذكروا على الذبائح اسم الله وحده فإن إلهكم إله واحد ، { فله أسلِمُوا } أي : فإذا كان إلهكم إلهًا واحدًا فأخلصوا له التقرب ، أو الذكر خاصة ، واجعلوه له سالمًا ، لا تشوبوه بإشراك . { وبشر المخبتين } المطمئنين بذكر الله ، أو المتواضعين ، أو المخلصين ، فإن الإخبات من الوظائف الخاصة بهم . والخَبْتُ : المطمئن من الأرض . وعن ابن عباس رضي الله عنه : هم الذين لا يظلمون ، وإذا ظلموا لم ينتصروا . وقيل : تفسيره ما بعده ، وهو قوله : { الذين إِذا ذُكرَ اللهُ وجِلَتْ قلوبُهم } : خافت منه هيبة لإشراق أشعة جلاله عليها . { والصابرين على ما أصابهم } من مشاق التكاليف ومصائب الزمان والنوائب ، { والمقيمي الصلاة } في أوقاتها ، { ومما رزقناهم يُنفقون } في وجوه الخيرات . { والبُدْنَ جعلناها لكم من شعائر الله } أي : من أعلام دينه ، وأضافها إلى نفسه تعظيمًا لها ، وهي : جمع بدنة ، سميت به لعظم بدنها ، ويتناول الإبل والبقر والغنم . { لكم فيها خيرٌ } أي : منافع دينية ودنيوية ، النفع في الدنيا ، والأجر في العقبى . { فاذكروا اسم الله عليها } بأن تقولوا عند ذبحها : بسم الله ، اللهم منك وإليك . حال كونها { صوافَّ } أي : قائمات ، قد صففن أيديهن وأرجلهن . { فإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } : سقطت على الأرض ، وسكنت حركتها ، من وجب الحائط وجبة : سقط ، وهي كناية عن الموت . { فكُلُوا منها } إن شئتم { وأطعِمُوا القانعَ } : السائل ، مِنْ : قنع إليه قنوعًا : إذا خضع ، { والمُعْتَرَّ } الذي يُعَرِّضُ ولا يسأل . وقيل : القانع : الراضي بما عنده وبما يُعطي من غير سؤال ، والمعترَّ : المتعرض للسؤال . { كذلك سخرناها لكم } أي : كما أمرناكم بنحرها سخرناها لكم ، أي : ذللناها لكم ، مع قوتها وعظم أجرامها لتتمكنوا من نحرها ، { لعلكم تشكرون } أي : لكي تشكروا إنعام الله عليكم . { لن ينال اللهَ لحومُها } المُتَصَدَّقُ بها ، { ولا دماؤها } المهراقة بالنحر ، أي : لن يصل إلى الله اللحم والدم ، { ولكن ينالُه التقوى منكم } فإنه هو الذي طلب منكم ، وعليه يحصل الثواب . والمراد : لن تصلوا إلى رضا الله باللحوم ولا بالدماء ، وإنما تصلون إليه بالتقوى ، أي : الإخلاص لله ، وقصد وجه الله ، بما تذبحون وتنحرون من الهدايا . فعبَّر عن هذا المعنى بلفظ { ينال } مبالغةً وتأكيدًا ، كأنه قال : لن تصل لحومها ولا دماؤها إلى الله ، وإنما يصل إليه التقوى منكم ، وقيل : كان أهل الجاهلية يلطخون الكعبة بدماء قربانهم ، فهمَّ المسلمون أن يفعلوا مثل ذلك ، فنزلت الآية . { كذلك سخرها لكم } أي : البدن ، وهو تكرير للتذكير والتعليل ، لقوله : { لتكبِّروا الله على ما هداكم } أي : لتعرفوا عظمة الله ، باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره ، فتوحدوه بالكبرياء شكرًا على هدايته لكم . وقيل : هو التكبير عند الذبح { وبشر المحسنين } : المخلصين في كل ما يأتون ويذرون في أمور دينهم . وبالله التوفيق . الإشارة : أعظم شعائر الله التي يجب تعظيمها أولياء الله ، الدالين على الله ، ثم الفقراء المتوجهون إلى الله ، ثم العلماء المعلمون أحكام الله ، ثم الصالحون المنتسبون إلى الله ، ثم عامة المؤمنين الذين هم من جملة عباد الله . ويجب تعظيم مَنْ نصبه الله لقيام خطة من الخطط لإصلاح العباد كالسلاطين ، ولو لم يعدلوا ، والقضاة والقواد ، والمقدمين لأمور العامة ، فتعظيم هؤلاء كله من تقوى القلوب . ويدخل في ذلك : الأماكن المعظمة كالمساجد والزوايا ، وأما الفقير فَيُعَظِّمُ كل ما خلق الله حتى الكلاب ، ويتأدب مع كل مخلوق . وقوله تعالى : { لكم فيها منافع } أي : لكم في هذه التجليات ، إن عظمتموها وعرفتم الله فيها ، منافع ، ترعَوْن من أنوارها وتشربون من خمرة أسرارها ، فتزدادوا معرفة وتكميلاً ، إلى أجل مسمى ، وهو مقام التمكين ، فحينئذ تواجهه أنوار المواجهة ، فتكون الأنوار له ، لا هو للأنوار ، لأنه لله لا لشئ دونه ، { قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } [ الأنعام : 91 ] . ثم محل هذه الأنوار إلى بيت الحضرة ، فحينئذ يستغني بالله عن كل ما سواه . وقوله تعالى : { ولكل أمة جعلنا منسكًا } أي : لكل عصر جعلنا تربية مخصوصة ، والوصول واحد ولذلك قال : { فإلهكم إله واحد } . وقال القشيري : الشرائعُ مختلفةٌ فيما كان من المعاملات ، متفقة فيما كان من جملة المعارف . ثم قال : ذكّرهم الله بأنه هو الذي أمرهم ويُثيبهم ، { فله أسلموا } : اسْتَسلموا لحكمِه ، من غير استكراهٍ من داخل القلب ولا من اللفظ . هـ . وقوله تعالى : { والبدن … } الآية . قال الورتجبي : فيه إشارة إلى ذبح النفس بالمجاهدات ، وزمها بالرياضات عن المخالفات ، وفناء الوجود للمشاهدات ، حتى لا يبقى للعارف في طريقه حظ من حظوظه ، ويبقى لله مفردًا من جميع الخلائق . هـ . وفي قوله تعالى : { فاذكروا اسم الله عليها صواف } ، إشارة إلى أن النفس لا تموت إلا بصحبة من ماتت نفسه ، فلا تموت النفس مع صحبة أهل النفوس الحية أبدًا . فإذا ماتت وسقطت جنوبها ، وظفرتم بها فكلوا من أنوار أسرارها وعلومها لأن النفس ، إذا ماتت ، حييت الروح ، وفاضت عليها العلوم اللدنية ، فكلوا منها ، وأطعموا السائل والمتعرض لنفحاتكم . وقوله تعالى : { لن ينال الله لحومها … } الآية ، قال الورتجبي : الإشارة فيه إلى جميع الأعمال الصالحة من العرش إلى الثرى ، لا يلحق الحق بحق المراد منه ، ولكن يصل إليه قلب جريح من محبته ، ذُبح بسيف شوقه ، مطروح على باب عشقه . قال سهل في قوله : { ولكن يناله التقوى } : هو التبري والإخلاص . هـ . قال القشيري : لا عِبْرةً بإظهار الأفعال ، سواء كانت بدنيةً أو ماليةً صِرْفًا ، أو مما يتعلق بالوجهين ، ولكن العبرة بقرائنها من الإخلاص ، فإذا انضَافَ إلى الجوارح إخلاص القصود ، وتَجَرَّدَتْ عن ملاحظة أصحابِها الأغيار ، صَلُحَتْ للقبول ، وينال صاحبها القرب ، بشهود الحق بنعت التفرد . ثم قال : { لتكبروا الله على ما هداكم } وأرشدكم إلى القيام بحقِّ العبودية على قضية الشرع ، { وبشر المحسنين } ، الإحسان ، كما في الخبر : " أنْ تعبد الله كَأنك تراه " وأمارةُ صحته : سقوطُ تعب القلب عن صاحِبهِ ، فلا يستثقلُ شيئًا ولا يتبرم بشيءٍ . هـ . قلت : خواطر الاستثقال والتبرم لا تضر لأنه طبع بشري ، وإنما يضر ما سكن في القلب . وقال في الإحياء : ليس المقصود من إراقة دم القربان الدم واللحم ، بل ميل القلب عن حب الدنيا ، وبذلُها إيثارًا لوجه الله تعالى ، وهذه الصفة قد حصلت عند جزم النية والهمة ، وإن عاق عن العمل عائق . فلن ينال الله لحومُها ولا دماؤها ، ولكن يناله التقوى منكم ، والتقوى ها هنا عمل القلب ، من نية القربة ، وإرادة الخير ، وإخلاص القصد لله ، وهو المقصود ، وعمل الظاهر مؤكد له ، ولذلك كانت نية المؤمن أبلغ من عمله فإنَّ الطاعات غذاء القلوب ، والمقصود : لذة السعادة بلقاء الله تعالى ، والتنعم بها ، وذلك فرع محبته والأنس به ، ولا يكون إلاّ بذكره ، ولا يفرغ إلا بالزهد في الدنيا ، وترك شواغلها والانقطاع عنها . هـ . ومن كانت هذه صفته كان من المحسنين …