Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 23, Ayat: 1-11)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جل جلاله : { قد أفلح المؤمنون } أي : فازوا بكل مطلوب ، ونالوا كل مرغوب ، فالفلاح : الفوز بالمرام والنجاة من المكاره والآلام ، وقيل : البقاء في الخير على الأبد ، وقد تقتضي ثبوت أمر متوقع ، فهي هنا لإفادة ثبوت ما كان متوقع الثبوت من قبل ، وكان المؤمنون يتوقعون مثل هذه البشارة وهي الإخبار بثبوت الفلاح لهم ، فخُوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه . والإيمان في اللغة : التصديق بالقلب ، والمؤمن : المصدِّق لِما جاء به الشرع ، مع الإذعان بالقلب ، وإلا … فكم من كافر صدّق بالحق ولم يذعن ، تكبُّراً وعناداً ، فكل من نطق بالشهادتين ، مواطئاً لسانُه قلبَه فهو مؤمن شرعاً ، قال عليه الصلاة والسلام : " لَمَّا خَلَقَ الله الجَنَّةَ ، قَالَ لَهَا : تَكَلَّمِي ، فَقَالَتْ : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤمنُون - ثلاثاً - أنا حرامٌ على كلِّ بخيل مُرائي " لأنه بالرياء أبطل العبادات الدينية ، وليس له أعمال صافية . ثم وصف أهل الإيمان بست صفات ، فقال : { الذين هم في صلاتهم خاشعون } : خاضعون بالقلب ساكنون بالجوارح ، وقيل : الخشوع في الصلاة : جمع الهمة ، والإعراض عما سواها ، وعلامته : ألا يجاوز بصرُه مصلاه ، وألاّ يلتفت ولا يعبث . وعن أبي الدرداء : هو إخلاص المقال ، وإعظام المقام ، واليقين التام ، وجمع الاهتمام . وأضيفت الصلاة إلى المصلين لانتفاع المصلِّي بها وحده وهي عُدَّته وذخيرته وأما المُصلَّى له فَغَني عنها . { والذين هم عن اللغو مُعرضون } ، اللغو : كل كلام ساقط ، حقه أن يُلغَى ، كالكذب والشتم ونحوهما . والحق إن اللغو : كل ما لا يَعني من الأقوال والأفعال ، وصفهم بالحزم والاشتغال بما يعنيهم وما يقربهم إلى مولاهم في عامة أوقاتهم ، كما ينبىء عنه التعبير بالاسم الدال على الثبوت والاستمرار ، بعد وصفه لهم بالخشوع ليجمع لهم بين الفعل والترك ، الشاقَّين على النفس ، اللذَيْن هما قاعدتا التكليف . { والذين هم للزكاة فاعلون } : مؤدون ، والمراد بالزكاة : المصدر ، الذي هو الإخراج ، لا المخرج . ويجوز أن يراد به العين ، وهو الشيء المُخْرج ، على حذف مضاف ، أي : لأداء الزكاة فاعلون . وصفهم بذلك ، بعد وصفهم بالخشوع في الصلاة للدلالة على أنهم بلغوا الغاية القصوى من القيام بالطاعة البدنية والمالية ، والتجنب عن النقائص ، وتوسيط الإعراض عن اللغو بينهما لكمال ملابسته بالخشوع في الصلاة لأن من لزم الصمت والاشتغال بما يعني عَظُم خشوعُه وأُنسه بالله . { والذين هم لفروجهم حافظون } : ممسكون لها ، ويشمل فرجَ الرجل والمرأة ، { إلا على أزواجهم } ، الظاهر أن " على " بمعنى " عن " أي : إلا عن أزواجهم ، فلا يجب حفظها عنهن ، ويمكن أن تبقى على بابها ، تقول العرب : احفظ عليّ عنان فرسي ، أي : أمسكه ، ويجوز أن يكون ما بعد الإستثناء حالاً ، أي : إلا والين على أزواجهم ، من قولك : كان زياد على البصرة ، أي : والياً عليها ، والمعنى : أنهم لفروجهم حافظون في كافة الأحوال ، إلا في حالة تزوجهم أو تسريهم . أو يتعلق " على " بمحذوف يدل عليه : غير ملومين ، كأنه قيل : يُلامون إلا على أزواجهم ، أي : يلامون على كل مباشرة إلا على ما أبيح لهم ، فإنهم غير ملومين عليه ، { أو ما ملكت أيمانهم } أي : سراريهم ، وعبَّر عنهن بما لأن المملوك يجري مجرى غير العقلاء ، لأنه يباع كما تباع البهائم . وقال في الكشاف : وإنما قال " ما " ، ولم يقل " مَن " لأن الإناث يجرين مجرى غير العقلاء . هـ . يعني : لكونهن ناقصات عقل ، كما في الحديث . وفيه احتراس من الذكور بالملك ، فلا يباح إتيانهم والتمتع بهم للمالك ولا للمالكة ، بإجماع . وقوله تعالى : { فإنهم غير مَلومين } أي : لا لوم عليهم في عدم حفظ فروجهم عن نسائهم وإمائهم . { فمن ابتغى وراء ذلك } طلب قضاء شهوته في غير هذين ، { فأولئك هم العادُون } : الكاملون في العدوان ، وفيه دليل على تحريم المتعة والاستمتاع بالكف لإرادة الشهوة لأن نكاح المتعة فاسد ، والمعدوم شرعاً كالمعدوم حساً ، ويدل على فساده عدم التوارث فيه بالإجماع ، وكان في أول الإسلام ثم نُسخ . { والذين هم لأمانتهم وعهدهم } أي : لما يؤتمنون عليه ، ويُعَاهَدون عليه من جهة الحق أو الخلق ، { راعون } : حافظون عليها قائمون بها ، والراعي : القائم على الشيء بحفظ وإصلاح ، كراعي الغنم . { والذين هم على صلواتهم } المفروضة عليهم { يحافظون } : يداومون عليها في أوقاتها . وأعاد الصلاة لأنها أهم ، ولأن الخشوع فيها زائد على المحافظة عليها ، وَوُحِّدَت أولاً ليُفاد أَن الخشوع في جنس الصلاة أيَّةَ صلاة كانت ، وجُمعت ثانياً ليُفاد المحافظة على أنواعها من الفرائض والواجبات والسنن والنوافل . قاله النسفي . { أولئك } الجامعون لهذه الأوصاف { هم الوارثون } الأحقاء بأن يُسَمَّوُا وارثين ، دون غيرهم ممن ورث رغائِب الأموال والذخائر وكرائمها ، وقيل : إنهم يرثون من الكفار منازلهم في الجنة ، حيث فوَّتُوها على أنفسهم ، لأنه تعالى خلق لكل إنسان منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار ، ففي الحديث : " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاّ ولَهُ مَنْزِلاَنِ : مَنْزِلٌ في الجنة ومَنْزِلٌ في النَّارِ ، فَإِن مَاتَ ودَخَلَ الجَنَّة ، وَرثَ أَهْلُ النَّارِ مَنْزِله ، وإِنْ مَات ودَخَلَ النَّارَ ، وَرثَ أَهْلُ الجَنَّةَ مَنْزِلَهُ " . ثم ترجم الوارثين بقوله : { الذين يرثون الفردوس } ، هو في لغة الروم والحبشة : البستان الواسع ، الجامع لأصناف الثمر ، والمراد : أعلى الجنان ، استحقوا ذلك بأعمالهم المتقدمة حسبما يقتضيه الوعد الكريم ، { هم فيها خالدون } ، أنث الفردوس بتأويل الجنة ، أو لأنه طبقة من طبقاتها ، وهي العليا . والله تعالى أعلم . الإشارة : قال القشيري : الفلاح : الفوزُ بالمطلوب ، والظَّفَرُ بالمقصود . والإيمان : انتسامُ الحقِّ في السريرة ، ومخامرة التصديق بخُلاصة القلب ، واستكمال التحقيق من تامور الفؤاد . والخشوع في الصلاة : إطراق السِّرِّ على بساط النَّجوى ، باستكمال نَعْتِ الهيبة ، والذوبانِ تحت سلطان الكشف ، والانمحاءِ عند غلبات التَّجلِّي . هـ . قلت : كأنه فسر الفلاح والإيمان والخشوع بغايتهن ، فأول الفلاح : الدخول في حوز الإسلام بحصول الإيمان ، وغايته : إشراق شمس العرفان ، وأول الإيمان : تصديق القلب بوجود الرب ، من طرق الاستدلال والبرهان ، وغايته : إشراق أسرار الذات على السريرة ، فيصير الدليل محل العيان ، فتَبتَهج السريرة بمخامرة الذوق والوجدان ، وأول الخشوع : تدبر القول فيما يقول ، وحضوره عندما يفعل ، وغايته : غيبته عن فعله في شهود معبوده ، فينمحي وجود العبد عند تجلي أنوار الرب ، فتكون صلاته شكراً لا قهراً ، كما قال سيد العارفين صلى الله عليه وسلم : " أفلا أكون عبداً شكوراً " . ولا تتحقق هذه المقامات إلا بالإعراض عن اللغو ، وهو كل ما يشغل عن الله ، وتزكية النفوس ببذلها في مرضاة الله ، وإمساك الجوارح عن محارم الله ، وحفظ الأنفاس والساعات ، التي هي أمانات عند العبد من الله . قال في القوت : قال بعض العارفين : إن لله - عز وجل - إلى عبده سرّيْن يُسِرهما إليه ، يُوجده ذلك بإلهام يُلهَمهُ ، أحدهما : إذا وُلِد وخرج من بطن أمه ، يقول له : " عبدي ، قد أخرجتك إلى الدنيا طاهراً نظيفاً ، واستودعتك عُمرك ، ائتمنتك عليه ، فانظر كيف تحفظ الأمانة ، وانظر كيف تلقاني كما أخرجتك ، " وسِرٌ عن خروج روحه ، يقول له : " عبدي ، ماذا صنعت في أمانتي عندك ؟ هل حفظتها حتى تلقاني على العهد والرعاية ، فالقاك بالوفاء والجزاء ؟ أو أضعتها فألقاك بالمطالبة والعقاب ؟ " فهذا داخل في قوله عز وجل : { وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } وفي قوله عز وجل : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [ البقرة : 40 ] فعُمْر العبد أمانة عنده ، إن حفظه أدى الأمانة ، وإن ضيَّعه فقد خان ، { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلخَائِنِينَ } [ الأنفال : 58 ] . هـ . ثمَّ ذكر ابتداء خلق الانسان واطواره …