Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 23, Ayat: 12-16)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : " خلق " : إن كان بمعنى اخترع وأحدث تعدى إلى واحد ، وإن كان بمعنى صَيَّر تعدى إلى مفعولين ، ومنه { ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً } ، ومن بعده . يقول الحق جل جلاله : { ولقد خلقنا الإنسان } جنس الإنسان ، أو آدم ، { من سُلالةٍ } " من " : للابتداء ، والسلالة : الخُلاصة لأنها تسل من بين الكدر ، وهو ما سُلَّ من الشيء واستخرج منه ، فإن فُعالة اسم لما يحصل من الفعل ، فتارة يكون مقصوداً منه ، كالخُلاصة ، وتارة غير مقصود ، كالقُلامة والكناسة ، والسلالة من قبيل الأول فإنها مقصودة بالسَّل ، وقيل : إنما سمي التراب الذي خُلق منه آدم سلالة ، لأنه سُلّ من كل تربة . وقوله : من طين ، بيان ، متعلقة بمحذوف ، صفة للسلالة ، أي : خلقناه من سلالة كائنة من طين . { ثم جعلناه } أي : الجنس ، باعتبار أفراده المتغايرة لآدم عليه السلام ، وجعلنا نسله ، على حذف مضاف ، إن أُريد بالإنسان آدم ، فيكون كقوله تعالى : { وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } [ السجدة : 8 ، 7 ] أي : جعلنا نسله { نطفة } : ماءً قليلاً { في قرار مكين } أي : في مستقر - وهو الرحم - مكين : حصين ، أو متمكن فيه ، وَصف الرحم بصفة ما استقر فيه ، مثل طريق سائر ، أي : مسير فيه . { ثم خلقنا النطفة علقة } أي : دماً جامداً ، بأن جعلنا النطفة البيضاء علقة حمراء ، { فخلقنا العلقة مُضغة } أي : قطعة لحم لا استبانةَ ولا تمايز فيها { فخلقنا المضغة } أي : غالبها ومعظمها ، أو كلها { عظاماً } ، بأن صلبناها ، وجعلناها عَموداً على هيئةٍ وأوضاع مخصوصة ، تقتضيها الحكمة ، { فكسونا العظام } المعهودة { لحما } بأن أنبتنا عليها اللحم ، فصار لها كاللباس ، أو كسونا كل عظم من تلك العظام ما يليق به من اللحم ، على مقدار لائق به ، وهيئة مناسبة . وقرئ بالإفراد فيهما ، اكتفاء بالجنس ، وبتوحيد الأول فقط ، وبتوحيد الثاني فحسب . { ثم أنشأناه خلقاً آخر } أي : خلقاً مبايناً للخلق الأول ، حيث جعله حيواناً ، وكان جماداً ، وناطقاً وسميعاً وبصيراً ، وكان بضد هذه الصفات ، ولذلك قال الفقهاء : من غصب بيضة فأفرخت عنده ضمِّنَ البيضة ، ولم يَرُدّ الفرخ لأنه خلق آخر سوى البيضة . { فتبارك الله أحسن الخالقين } أي : فتعالى أمره في قدرته الباهرة ، وعلمه الشامل . والالتفات إلى الإسم الجليل لتربية المهابة ، وإدخال الروعة ، والإشعار بأنَّ ما ذكر من الأفاعيل العجيبة من أحكام الألوهية ، وللإيذان بأنَّ من حق كل من سمع ما فصَّل من آثار قدرته تعالى أو لاحظه ، أن يسارع إلى التكلم به ، إجلالاً وإعظاماً لشؤونه تعالى ، وقوله : أحسن الخالقين : بدل اسم الجلالة ، أو نعت ، على أنَّ الإضافة محضة ليطابقه في التعريف ، أو خبر ، أي : هو أحسن الخالقين خلقاً ، أي : أحسن المقدرين تقديراً ، فحذف التمييز لدلالة الخالقين عليه . قيل : إنَّ عبدَ اللهِ بنَ أبي سَرْح كان يَكْتُبُ الوحيَ للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلمَّا انتهى - عليه الصلاة والسلام - إلى قوله : { خلقا آخَر } ، سَاَرَعَ عبدُ الله إلى النُطقِ بِذَلِكَ ، فَنَطَقَ بذلِكَ ، قبل إِمْلاَئِهِ ، فَقَالَ له رسُول الله صلى الله عليه وسلم " اكْتبْ ، هَكَذَا أُنْزِلَتْ " فَشَكَّ عبدُ الله ، فَقَالَ : إنْ كانَ مُحمدٌ يُوحَى إليْهِ ، فَأَنَا يُوحَى إليَّ ، فارتدَّ ولَحِق بمكَّةَ كافِراً ، ثم أَسْلَمَ يَوْمَ الفَتْحِ . وقيل : الحكاية غير صحيحة لأن ارتداده كان بالمدينة ، والسورة مكية . ثم قال تعالى : { ثم إنكم بعد ذلك } أي : بعد ما ذكر من الأمور العجيبة ، حسبما ينبىء عنه ما في اسم الإشارة من البُعد ، المشعر بعُلُوِّ مرتبة المشار إليه وبُعد منزلته في الفضل ، { لميتون } : لصائرون إلى الموت لا محالة ، كما يؤذن به صيغة الصفة ، وقرئ " المائتون " ، { ثم إنكم يوم القيامة } أي : عند النفخة ، { تبعثون } في قبوركم للحساب والمجازاة ، فإن قلت : لِمَ أكدَّ الأول بإنّ واللام ، وعبَّر بالاسم دون الثاني ، الذي هو البعث ، والمتبادر للفهم العكس لأن الموت لم ينكره أحد ، والبعث أنكره الكفار والحكماء ؟ فالجواب كما قال ابن عرفة : إنه من حمَل اللفظ على غير ظاهره ، مثل : @ جَاءَ شَقِيقٌ عَارضاً رُمْحَه إِنَّ بني عَمِّك فِيهِمْ رِمَاحُ @@ فَهُم ، لعصيانهم ومخالفتهم ، لم يعملوا للموت ، فحالهم كحال المنكر لها ، ولمّا كانت دلائل البعث ظاهرة صار كالأمر الثابت الذي لا يُرتاب فيه . هـ . الإشارة : اعلم أن الروح لها أطوار كأطوار البشرية ، من الضعف والقوة شيئاً فشيئاً ، باعتبار قوة اليقين ، والترقي إلى العلم بالله ومشاهدته ، فتكون أولاً صغيرة العلم ، ضعيفة اليقين ، تم تتربى بقوت القلوب وغذاء الأرواح فقوتُ القلوب : العمل الظاهر ، وقوت الأرواح : العمل الباطن ، فلا تزال تتقوت بالعمل الظاهر شيئاً فشيئاً حتى تقوى على كمالِ غايته ، ثم تنتقل إلى قوت العمل الباطن كالذكر القلبي ، والتفكر والاعتبار ، وجولان القلب في ميادين الأغيار ، ثم دوام حضور القلب مع الحق على سبيل الاستهتار ، ثم يفتح لها ميادين الغيوب ، ويوسع عليها فضاء الشهود ، فيكون قُوتها حينئذٍ رؤية المحبوب ، وهو غاية المطلوب ، فتبلغ مبلغ الرجال ، وتحوز مراتب الكمال ، ومن لم يبلغ هذا بقي في مرتبة الأطفال ، ولا يمكن حصول هذا إلا بصحبة طبيب ماهر ، يعالجها ويربيها ، وينقلها من طور إلى طور ، وإلاَّ بقيت الروح مريضة لا تتقوت إلا بالمحسوسات ، وهي لا تُشبع ولا تُغني من جوع . وبالله التوفيق . ولما ذكر ابتداء الانسان وانتهاءه ذكره بنعمه